وها هو اليوم يستعدّ للوفادة إلى الغريّ «النّجف الأشرف»، وفي قلبه حرارةٌ للإمام الحسين (عليه السّلام) لم ولن تبرد أبداً. وذلك في سنة ١٣١٢ هـ .ش، حيث توجه «الشّيخ محمّد تقي البهجة» إلى النّجف الأشرف، قاصداً باب أمير المؤمنين (عليه السّلام)، الّذي هو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه و آله)، متوسّلاً به أن يفيض عليه ويساعده في نيل العلوم العالية والكمالات السّامية.
ومن الجدير ذكره أنّ مسقط رأس سماحته أي مدينة فومن الإيرانية، لم تكن مدينة عاديّة بل كانت مدينة ذات أشجار وفيرة وطبيعة ساحرة ومناخ لطيف يهيم الناظر لها في نضارة صنعها، ولكن سماحة «الشّيخ محمّد تقي» لم يكن يعير اهتماماً لهذه الجنّة الظاهريّة مقابل الجنّة الحقيقيّة في نظره، ألا وهي الرّوضة الحيدريّة في غريّ النّجف الأشرف، الّتي تضمّ مرقد الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، وذلك على رغم شدّة الحرّ فيها، حيث لم يكن فيها سوى شجرة واحدة كانت في صحن حرم أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فآثر الشّيخ محمّد تقي طلب العلم والسّير إلى الله مع تلك الصّعوبة الّتي كان يعانيها أغلب طلبة العلوم الدّينية من قلّة الدّخل وعسر المعيشة، لكنّها الرّوضة الإلهيّة الّتي لا يعرف معناها إلا من تذوّق من نمير معينها الّذي لا ينضب حبّاً وعشقاً إلهيّاً، ويبقى الشّيخ محمّد تقي مواصلاً طريق الجدّ والاجتهاد في العلم والعمل بكل شوق وشغف. فلقد دخل إلى النّجف الأشرف وهو في ريعان شبابه، حيث لم يتجاوز الثّامنة عشرة من عمره حاطّاً رحاله في «مدرسة السّيّد محمّد كاظم اليزدي(قدّس سرّه)» لتكون له مستقرّاً ومقاماً، والّتي كانت من أكثر المدارس بركة وفيضاً، حيث كانت مألفاً للكثير من العلماء الربانييّن، وفي البداية مكث الشّيخ محمّد تقي في إحدى الزّوايا الضّيقة في المدرسة والّتي لم تكن لتتّسع لجسمه النّحيل، وذلك بسبب امتلاء حُجَرِ المدرسة، ثم انتقل إلى حجرة في الطّابق الأرضي، ومن بعدها انتقل إلى غرفة في الطّابق الثّاني كي لا يشغله شاغل ولا يمنعه مانع من الدّرس والعبادة، حيث كان الطّابق الأرضي تقام فيه جلسات حواريّة يتمّ فيها تجاذب أطراف الحديث، الأمر الّذي كان مدعاةً لِنُفور سماحته، إذ إنّه كان حريصاً على آنات عمره ولحظاته منذ البداية، وإحدى الحجرات الّتي سكنها سماحته كانت بجوار حجرة آية الله الشّيخ مرتضى الطالقاني (قدّس سرّه) والأخرى كانت مقابل حجرة الشّيخ محمّد رضا المظفّر (قدّس سرّه) ويُذكر أنّ الشّيخ محمّد تقي مرض في أثناء إقامته في غرفته الصّغيرة في المدرسة، فجاء لعيادته آية الله السّيّد الخوئي وآية الله السّيّد الميلاني (قُدِّست أسرارهما) فما كادت الغرفة لتتّسع من شدّة ضيقها.
وفي بداية قدومه للنجف الأشرف أكمل «الشّيخ محمّد تقي» القسم النّهائي من الرّسائل والمكاسب[1]، حيث أنهى دراسة السّطوح لدى كبار العلماء الأجلاّء العظماء في النّجف الأشرف، وهم: آية الله الشّيخ مرتضى الطالقاني وآية الله السّيّد الشّاهرودي، وآية الله السّيّد الميلاني، وآية الله السّيّد الخوئي، والشّيخ علي محمّد البروجردي قدّس الله سرّهم جميعاً.
[1] قد درس سماحته (قدّس سرّه) معظم الرسائل و المكاسب في كربلاء المقدسة.