من جملة الأُمور التي كان سماحته يُوْليها بالغ الأهميّة، هو حضوره المتواصل يوميّاً في الحرم الطّاهر والملكوتي لكريمة أهل البيت السّيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام)، حيث كان دأبه حتّى آخر عمره المبارك ـ الّذي توسّط العقد العاشر ـ أن يتشرّف بعد أداء صلاة الصّبح بزيارتها، ويعتزل في زاوية من زوايا الحرم ليختلي هناك خلوة العاشق، ويقرأ بعض الزّيارات والأدعية، ويؤدّي بعض الصّلوات.
وكان شيخنا البهجة(قدّس سرّه) يولي أهمية قصوى لإقامة مجالس العزاء على مصائب أئمة أهل البيت الأطهار (عليهم السّلام) على مدار السّنة وخاصّة على مصاب الإمام الحسين (عليه السّلام) وذلك لأكثر من أربعين عاماً من عمره الشّريف.
فبدايةً كان يقيم هذه المجالس في بيته، وبعد أن انتهت إليه المرجعيّة أصبحت تقام في مسجد فاطميّة الّذي كان ـ على الرّغم من صغر مساحته ـ يتميّز بالنّقاء والرّوحانيّة العالية والبساطة. وكان سماحته(قدّس سرّه) يواظب على الحضور في هذا المجلس حتّى في أصعب الظّروف الّتي كانت تتمثّل في سنّه العالية، وفي البرد والحرّ الشّديدين بل حتّى في حالات مرضه، وكان سماحته يتألّم ويتفجّع لمصاب ومظلومية أهل البيت (عليهم السّلام) لا سيما أبو الأحرار سيّد الشّهداء أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام)، ويذرف الدّموع، وكان يئنّ أنيناً محزناً بحيث يُبكي من حوله، وكان هذا دأب سماحته(قدّس سرّه) عندما يذهب لزيارة مشهد الإمام الرّضا (عليه السّلام) في العطلة الصّيفيّة بحيث لا يمنعه السّفر عن إقامة مجالس إحياء أمر أهل البيت (عليهم السّلام) أسبوعيّاً، إضافةً لأيّام المناسبات الخاصّة.
ينقل أحد الفضلاء:
«أنّه في الأيّام الّتي كان آية الله البهجة يعطي في منزله درس أُصول الفقه صباحاً ودرس الفقه عصراً، ويقيم مجالس العزاء أيضاً قريب الظّهر من أيّام الجمعة، دائماً كان يجلس قرب الباب بينما يُجلِسُ كلَّ طلبته في مكانٍ أعلى من مجلسه، وأيضاً في مجالس العزاء يقوم بكامل قامته احتراماً للقادمين ويظهر احتراماً خاصاً للسّادة الأشراف و علماء الدّين»[1].
وينقل أحد طلبة سماحته أنّه وفي أحد مجالس عزاء سيّد الشّهداء (عليه السّلام)، كنت قد أحصيت لسماحته أنّه قد قام وجلس للدّاخلين إلى المجلس أكثر من مائتي مرّة بحيث كان يقوم من مقامه احتراماً حتّى عند دخول الأطفال.
ولم تكن سيرة الشيخ المتفجع على مصائب السّادة الأطهار من آل محمّد (عليهم السّلام) بعيش حياة البكاء الشديد أمراً جديداً في جدول الأعمال العبادية لسماحته، بل كان هذا ديدنه منذ نعومة أظفاره، وتشتدّ يوماً بعد يوم لوعة الحزن والأسى على مصائب أهل البيت (عليهم السّلام) لا سيما سيّد الشهداء (عليه السّلام)، بحيث يقول السيد محمّد حسن القاضي الطباطبائي نجل آية الله السيد علي القاضي (قدّس سرّه) أنه لم يَرَ مثلَه في التلهّف والتأوّه على أهل البيت (عليهم السّلام)، فيقول واصفاً مشاهد من حرقة الجَوَى لدى الشيخ البهجة (البالغ مناه) عند حضوره لمجلس الإمام الحسين (عليه السّلام) والّذي كان يقيمه والده آية الله السيد علي القاضي (قدّس سرّه):
«ولا يفوتني أن أذكر أنّي لم أرَ أحداً تظهر عليه سماتُ الخضوع والخشوع أثناء قراءة التعزية على أبي عبد الله (عليه السّلام) مثل هذا الشيخ الجليل، ...مطرقاً برأسه إلى الأرض»[2].
ومن الواضح أنّ اهتمامه الشّديد ومواظبته الجادّة على إقامة مجالس العزاء لسيّد الشّهداء (عليه السّلام) وإصراره على حضورها بنفسه كان ناشئاً من شدّة تعلّقه بأهل البيت (عليهم السّلام)، وتمسّكه بالعمل وفق رواياتهم المأثورة الّتي تحثّ مواليهم على إحياء المجالس الّتي تحيا فيها القلوب بذكرهم، وكما كان هذا دأب أُستاذه السيّد القاضي ووصيّته[3].
وكيف لا تحيى القلوب والنّفوس في هذه المجالس الّتي هي محل عناية فائقة منهم صلوات الله عليهم أجمعين؟ وفي ذلك عدّة روايات تدلّ على حضور الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين بأنفسهم في هذه المجالس، فكيف لا يحضرون المجلس الّذي يقيمه وليّهم الصّالح الشّيخ البهجة، حيث كان يوصي الكثير من العلماء الربّانيّين بالحضور في المجالس الّتي يقيمها سماحة الشّيخ البهجة كونها محل نزول الفيوضات والبركات، ومن شواهد ذلك ما ينقله الرّاثي الّذي كان يقرأ في مسجد الفاطميّة بمحضر آية الله الشّيخ البهجة (البالغ مناه)، يقول:
«في أحد الأيّام سمعت من مرافقي سماحة الشّيخ قضيّة فأردت سماعها من نفس سماحته فذهبت إليه وقلت لسماحته: أرغب بالتّحدث مع سماحتكم، فقال لي: تعال للمنزل في السّاعة الفلانيّة، فذهبت لمنزل سماحته وقلت لسماحته: لقد سمعت قضيّة من مرافقي سماحتكم وأرغب في أن أتأكّد من صحّتها وأسمعها من سماحتكم، فقال لي سماحته: «نقل لي صديقي الّذي أثق به، أنّه في مجلسنا الّذي أقمناه في اليوم الخامس عشر من شعبان[4]، كان السيّد جالساً بجوار المحراب وعندما أنهيتَ قراءتك للمدائح والأناشيد وأردت أن تدعو دعاء الختام، قام السيّد وأخذ نعله وأراد الخروج من المسجد، لكن لا أدري ما الّذي حصل حيث بدأت أنت فجأة برثاء السيّدة الزّهراء (عليها السّلام) والنّعي عليها، فعاد السيّد إلى المجلس ثانيةً احتراماً لمجلس عزاء أُمّه وحضر هذا النّعي». يقول الرّاثي قلت لسماحة الشّيخ: هناك الكثير من السّادة يحضرون في مجلسكم، فقال لي سماحته: «لا، لا، السّيد، الإمام الحجّة | كان حاضراً في المجلس!».
من هنا كان مجلس العزاء الأسبوعيّ هذا فيه من الحالات المعنويّة ما يدرك ولا يوصف، ولذا فقد كان محفلاً يستهوي قلوب عشّاق أهل البيت والوالهين بحبّهم. وكانوا يأتون من كلّ حدب وصوب، من داخل إيران وخارجها، من شتّى أقطار العالم لكي ينيروا نواظرهم برؤية هذا العبد الصّالح ويحضروا مجلس العزاء الحسيني، حيث تمتزج دموع حزنهم على سيّد الشّهداء بدمع الشّوق للقائهم هذا المرجع العظيم.
[1] بهجت عارفان در حديث ديگران، ص ٢٢٧.
[2] صفحات من تاريخ الأعلام في النجف الأشرف، ص ٢٥١- ٢٥٣.
[3] جاء في قسم من وصية استاذه الشّيخ المرحوم الميرزا السيد علي القاضي: «لاتتوانوا في إقامة مجالس عزاء سيد الشهداء وزيارته وإن إقامة مجلس أُسبوعي حتى بحضور فردين أو ثلاثة تسبب تيسير الامور».
[4] والّذي يصادف يوم ميلاد الإمام الحجّة المهدي (عج).