حياة طيّبة

في ليلة الجمعة الخامس والعشرين من شوّال سنة 1334 هـ . ق، أنار منزل محمود الكربلائي وليدٌ، جعلته يد القدرة الإلهيّة فيما بعد مَعِينَاً ينهل منه عشّاق العلم والمعرفة من شيعة أهل بيت العصمة والطّهارة صلوات الله عليهم، ومناراً يُضيء لسالكيه درب السير إلى الله سبحانه وتعالى؛ إنّه آية الله الحاج الشّيخ محمّد تقي البهجة (البالغ مناه). لقد كان محمود الكربلائي ذلك الرّجل الصّالح وذو الصّيت الطيّب في مدينة «فومن» على موعدٍ مع مولوده الّذي حباه الله إيّاه وبُشِّرَ باسمه الموعود به، منذ سني شبابه، وذلك من خلال حادثة ألمّت به، حيث كانت مدينة فومن -قبل أكثر من عشر سنوات من الولادة الميمونة للشّيخ البهجة- قد تعرّضت لهجوم مرض فَتكَ بأهاليها واحداً تلو الآخر، وحصد العديد من أبنائها، وقد طال المرضُ الميرزا محموداً فراح ينازع سكرات الموت، ولكن القدرة الإلهيّة شاءت أن يبقى والد «محمّد تقي» على قيد الحياة، إثر رؤيا كانت أشبهَ برؤيا الأنبياء والصّالحين، كبشارة الملائكة لزكريّا بابنه يحيى (عليهما السّلام)، حيث بُشّر بقدوم الطّفل المبارك «محمّد تقي» وهو لا يزال في أول أيام شبابه، وكان آنذاك في السّابعة عشرة من عمره، ولم يكن متزوِّجاً بعد، فكانت بشارةً سبقت الزَّمان والمكان، وبشَّرت بقدوم هذا الطّفل حيث سمع وقتها صوتاً ينادي: «دعوه إنّه والد محمّد تقي!» فعادت إليه الحياة وصار ينتظر قدومه بشوق ولهفة، وبعد سنوات من الصّبر والتّوسل والنّذورات الّتي قدمتها والدة الطفل «مرضيّة خانم» تلك المرأة المقدّسة العابدة، وُلِدَ «محمّد تقي» ليضفي بهذه الولادة الميمونة على فومن وأهلها نوراً وسحراً وجمالاً من نوع آخر ...
وما إن بلغ هذا المولود شهره السّادس عشر حتّى اختطفت يدُ الموت أمّه الحنون التّي كانت تغدق عليه الحبّ والرّحمة، وفَجَعَ فقدُها تلك الأسرة الّتي خيّم عليها الحزن والألم، إلّا أنّ أُخته الكبيرة «معصومة خانم» قامت مقام أُمّها وتكفّلت تربيته فأصبحت أُمّاً لأخيها، تصحبه معها أينما حلّت. في أحد الأيّام أرادت «معصومة خانم» أن تقوم برفقة عدد من نساء المدينة بزيارة أحد مراقد أبناء الأئمّة (عليهم السّلام) القريبة من مدينتها، فاصطحبت معها الطّفل «محمّد تقي» وتوجّها معاً إلى زيارة المرقد الطّاهر، وهناك حيث هدأت الأصوات وخشعت القلوب للّه الجبّار، كانت توجد حصاة بالقرب من الضّريح المبارك معروف عنها أنّها ما من زائر دعا عندها إلّا وتمّت الإجابة له بالرّد أو القبول، وتقدّم الطفل ليهمس بكلمات العشق المكنونة في صدره سائلاً: «هل سأتشرف بزيارة كربلاء؟» فتحرّكت الحصاة في كفّه إعلاناً بقبول الإجابة، وهذا يدلّ على المقام المعنويّ لهذا الطّفل الّذي كان يختلف كلياً عن باقي الأطفال، حيث كان بعيداً كلّ البعد عمّا يهوونه من ملذّات الدنيا الطّفوليّة، بل كان مستغرقاً في عالمه الإلهيّ الخاصّ. وترعرع «محمّد تقي» يصطحبه والده في ذهابه وإيابه حتّى أصبح جليس أبيه ومؤنس وحدته، وهو يرى بحجمه الصّغير وروحه الكبيرة كيف يتحوّل حبّ أهل بيت النّبي الأطهار (عليهم السّلام) في قلب والده الحزين إلى منهلٍ يروّي صفحات الأوراق، لتتفجّر ميراثاً يردّده المتولّهون بحبّ الحسين (عليه السّلام)، ثمّ يتحوّل إلى تمتمات تترنّم بها شفاهُهم في مجالس العزاء الحسينيّ. حتّى إذا ما تشبّعت نفس «محمّد تقي» الصّغير بهذه التّلاوات الحسينيّة وارتوت روحه بنفحاتها النديّة، بدأ قلبه يتبرعم رويداً رويداً على حبّ شهيد العشق والمحبّة، وبقي يلتاع ألماً وحزناً بلوعات مصاب ذلك الإمام المظلوم، لما يقرب قرناً من الزّمن حتّى وُورِيَ الثّرى. هكذا درج «محمّد تقي» من عشقه لسيّد الشهداء أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام)، حتّى انتهى به المطاف إلى زاوية في «مكتب خانه الملّا حسين الكوكبي الفومني»، وهو مكان مؤلّف من غرفة واحدة ينعقد في هدوئها محفلٌ لتعليم القرآن، حيث يجلس المُلّا ليعلّم تلامذته قواعد التّلاوة القرآنيّة، وهنا أصبح «محمّد تقي» وهو في نعومة أظفاره يتلو آيات القرآن الكريم، ليطوي هذه المرحلة من عمره بذلك الصّوت الجذّاب الّذي راح يبدّد ذلك الهدوء وهو يرتّل «الحمدلله ربّ العالمين»، لتمتلئ نفسه التوّاقة بنور الذّكر الحكيم، ويتعطّر فمه بتلفّظ السورة المباركة، إلى جانب ذلك راح هذا التّلميذ وبجديّة فائقة الوصف، وشوق متزايد يطوي السير سبع سنوات بتجوال بصره وإعمال فكره في المتون الأدبيّة الفارسيّة، ككتابي «بوستان» و«گلستان» و كتاب «كليلة ودمنة» وبعض الأُمور الحسابيّة، حتّى أصبح من تلاميذ الأستاذ الأوائل. ويتألّق النّور الإلهيّ فيبدو جليّاً على الفتى، وتظهر ملامحه للجميع، فقد استطاع أن يدرك الحالات المعنويّة والمقامات العاليّة لإمام الجماعة في مسجد منطقته «الشّيخ أحمد السعيدي» الّذي كان معروفاً بزهده وتقواه بين أهل المدينة، وكلّ ذلك بفضل نقاء فطرته وبصيرته الّتي كانت تخرق الحجب لتصل إلى معدن العظمة، حتّى صارت روحاهما تلتقيان في المسجد عند كلّ صلاة، فكأنّ الشّيخ أحمد السّعيدي هو أوّل شخصيّة قد تأثّر بها الطّفل، فراح ينهل من معينها علوماً وفيوضات إلهيّة، جعلته نجماً متألّقاً في الحكمة والرّصانة وعمق التّفكير، حيث جرت ينابيع الحكمة على لسانه، وظهرت في حركاته وسكناته، لتكون عِبَرَاً لمن ألقى السّمع وهو شهيد، وينقل في ذلك أحد المعمّرين من مدينة فومن: إنّه في إحدى اللّيالي، وبينما كان يسير «محمّد تقي» مع صديقه في الشّارع وإذا بهما يريان حشرة مضيئة، فيقترب «محمّد تقي» منها مطلقاً عبارات الحكمة قائلاً لصديقه: «يمكن للإنسان أن يكون مصدراً للنّور، ويضيء بنوره للآخرين كما يفعل هذا الكائن الصغير المضيء!» فاستغرب صديقه من كلامه فأكمل الطّفل «محمّد تقي»: «ليس ذلك إلّا بترك المعصية!». وكأنّ يد الغيب تطلق على لسانه كلمات فيها من الحكمة والموعظة ما هو لأولياء الله ينابيع علم خصّهم بها، ليدلّ كلّ ذلك على مقام وعظمة هذا الطّفل عند الله. وكذلك تميّز بعلمه وبالإحاطة الشّاملة والتّامّة بِالمسائِل الفقهيّة، حيث كانت ترجع إليه النّساء العفيفات في المسائل الشّرعيّة الخاصّة بهنّ لصغر سنّه، ولاستحيائهنّ من الرّجوع في ذلك إلى علماء المنطقة. لكنّ روح هذا الفتى العطشى لم ترتوِ بعدُ، حيث كانت تتطلّع للمزيد من المعرفة فيمّم وجهه شطر الحوزة العلميّة في فومن، لتُفكِّك له بمعارفها أسرار آيِ الذّكر الحكيم، ورموز روايات الأئمّة الأطهار من آل محمّد صلوات الله عليهم أجمعين لِتَعيَها أُذنه الواعية. وهنا في فومن بدأ «محمّد تقي» دراسة المقدّمات الحوزويّة عند «الشّيخ القاضي المتّقي»، والّذي كان يهتمّ به لنشاطه ومثابرته واستعداده، وكان «محمّد تقي» يرسّخها بحلقات المباحثة والحوار ومذاكرة العلوم الدّينيّة المختلفة. ولم تنته تطلّعات «محمّد تقي» عند الدّراسة الفقهيّة فحسب، بل كان يطوي بموازاة ذلك طريق المعرفة والأخلاق وتهذيب النّفس وكسب الفيوضات المعنويّة على يد «آية الله الحاج الشّيخ أحمد السّعيدي الفومني»، خاصّة تلك الأوقات الّتي كان يأتمّ فيها بهذا العالم الربانيّ وما تحمله من بهاء معنويّ وصفاء باطنيّ، بقيت آثارها في مخيّلة الإمام والمأموم . ولم يكن هناك شيءٌ يمنع «محمّد تقي» عن زيارة قبر والدته «مرضيّة خانم» على الرّغم من انشغاله الدّائم والمستمرّ في تحصيل العلوم والمعارف، وبالإضافة إلى مساعدته لوالده، واستغراق وقته كلّه لكنّه كان يزور قبر أُمّه الّتي لم ترها عيناه منذ الصّغر، فَلِكَمال معرفتهِ بحقّها عليه وتمام بِرّه بها كان يوفي ذلك الحقّ بمواظبته كلّ يوم على زيارتها مرتّلاً عندها آيات من الذّكر الحكيم، إلى أن تمّ نقل القبر فيما بعد الى أرض الطّفّ بجوار الإمام الحسين (عليه السّلام).
لا شكّ أنّ الأوقات الّتي كان يقضيها «محمّد تقي» مع أساتذته في حوزة فومن العلميّة، وهم خرّيجو الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف، كان يتخلّلها الكلام عن ذلك الجوّ العلميّ المقدّس، ومحاضر الدّروس الرّائعة الّتي تتّصف بها الحوزات العلميّة في العراق، خاصّة تلك الّتي ترفل بأَردية الشّرف والقداسة بجوار باب مدينةِ العِلْم أمير المؤمنين (عليه السّلام) وسيّد الشّهداء (عليه السّلام)، ممّا كان يسبّب زيادة حرارة الوجد والشّوق في قلب هذا التّلميذ العصاميّ الّذي كان شوقه للإمام الحسين (عليه السّلام) قد اختلط بلحمه ودمه منذ طفولته، وكان أُستاذه الشّيخ أحمد السّعيدي يشير على والده الميرزا محمود الكربلائي بأن يبعث ولده «محمّد تقي» إلى النّجف ليكمل دراسته وينهل من علوم أهل البيت (عليهم السّلام)، وكان يصرّ على ذلك لما كان يرى من نوره وقدسه، ولم يكن قد بلغ الحلم في ذلك الوقت، وقد اقتنع الميرزا بكلامه لما يرى من نبوغ عقل ولده وصفو سريرته، وكان يحاول استباق الزّمن وطيّ المسافات لكي يرد تلك الدّيار النيّرة، ويحضر تلك الدّروس البهيجة حتّى إذا ما حانت الفرصة أسرع «محمّد تقي» ليضع قدمه على طريق الهجرة الّتي حان وقتها وكان ذلك في جمادى الآخرة سَنَة 1348 هـ . ق، حيث أودعه والده الرّؤوف الّذي لمس شوق ولده المتأجّج لتلك الدّيار، بكفالة أحد أصدقائه من ذوي المكنة الّذي كان عازماً على زيارة الأئمّة الطّاهرين (عليهم السّلام) كي يوصله إلى كربلاء المقدّسة، وهكذا كان، حيث سارت القافلة يحدوها أمل اللّقاء مع مقام سيّد الشّهداء (عليه السّلام)، وباب الحوائج أبي الفضل العبّاس (عليه السّلام)، ولكنّها خلّفت وراءها منزلاً حزيناً وأباً عطوفاً يقف على باب الدّار يرمق غلامه البارّ بنظرات الوداع، وفي العين دمعة، وفي القلب غصّة، وعلى اللّسان يجري الدّعاء بحفظ الفتى الطّاهر «محمّد تقي». فقلب المحبّ قلق على حبيبه، فعلى الرغم من أنّ الوالد يعلم أنّ أخاه «الميرزا عَليّاً الأكبر» سيكون خير كفيل لمهجة قلبه ـ حيث إنّ «محمّد تقي» سيكون بضيافة عمّه ـ وإنّه سيرعاه بأشفار عيونه، ويحنو عليه ويهتمّ به، إلاّ أنّ هذا الأمر لم يهدّئ من روعه، ولم يسكّن من سريرته، فكلّ شيء في الدّار يذكّره بحبيبه، فأرجاء المنزل كان يلفّها الحزن، وكلّ زاوية فيه تحاكي مشهداً من مشاهد الحبيب، هنا كان يصلّي وهنا كان يتلو آيات من الذّكر الحكيم ...
فقد ابتهجت نفسه بشمِّ ترابها المقدّس، وتنفّست روحه عبير ذلك الضّريح الملكوتيّ، فوقع يلثم أعتاب سيّد الشّهداء الإمام الحسين (عليه السّلام). ولم يكن المهاجر يومها قد بلغ الحلم حيث كان في ربيعه الرّابع عشر ، لكنّه كان يحمل كنوزاً من العلم والمعرفة. ففي الزّيارة الأولى لمقام سيّد الشّهداء (عليه السّلام)، جمع الله تعالى بين العالم الأُصوليّ الكبير «الميرزا النّائيني(قدّس سرّه)» وبين اليافع الموالي «محمّد تقي» في أوّل صلاة جماعةٍ، وفي أول زيارة لهذا اليافع لمقام سيّد الشّهداء (عليه السّلام). فكانت هذه من المنح الحسينيّة الّتي أُفيضت على قلب الغلام الموالي «محمّد تقي»، أن جمعه الله مع العالم التّقي النّائيني، وأراه من حالاته المعنويّة ما جعل قلبه بعطاء ربّه رضيّاً. وهذا الأمر إنّما حصل بتدبير إلهيّ، ولم يكن هذا اللّقاء عابراً، وإنّما هي من الأمور الّتي يعدّها الله تعالى لأوليائه، تمهيداً لصناعتهم لخدمة هذا الدّين الحنيف، فكان هذا اللّقاء الجامع بين اليافع الربانيّ والعالم الربانيّ هديّة حسينيّة ممهّدة لكي يصبح «محمّد تقي» من تلامذة العلاّمة النّائيني عندما ذهب فيما بعد إلى النّجف الأشرف. أقام «محمّد تقي» بادئ أمره في بيت عمّه الّذي كان يومها يسكن كربلاء المقدّسة وبقي فيه لمدّة سنة، حيث لم يستنكف يوماً عن خدمته أو يتململ من وجوده، وكان يؤمّن له كلّ حاجاته، ولا يجعله يحتاج أن يطلب منه شيئاً، فهذا الضّيف الربانيّ هو هديّة الله تعالى إليه، فكان يتعامل معه كنعمةٍ منّ الله تعالى عليه بها، فيتفانى في خدمته، ويتولّى بنفسه الإهتمام بأموره وشؤونه، ثمّ انتقل إلى حجرة في المدرسة البادكوبيّة العلميّة. ولله درّه أيّ دقّة لا متناهية في تطبيق حدود الله تعالى كانت عند الفتى «محمّد تقي»، والّتي جعلته مراعياً لحدود شريعة ربّه إلى هذا الحدّ، لقد قرّر الفتى الّذي بلغ سنّ التّكليف وبلغ من عمره خمس عشرة سنة أن يترك بيت عمّه، فالميرزا علي الأكبر كان يرعاه بأشفار العين، ويؤمّن له المأكل والفراش لينام قرير العين، ويرافقه قبل بزوغ الفجر لزيارة الإمام الحسين (عليه السّلام). فعمّه كان تقيّاً، كما كان قلبه بابن أخيه مسروراً رضيّاً، فما الّذي جعل قرّة عينه يبتعد عن عينه؟ ولكن قلبه ازداد لهذا الغلام حبّاً، عندما أدرك أنّ في رحيله من بيته، لله تعالى فيه سببٌ، حيث إنّ الفتى الزّكيّ «محمّد تقي» رفض أن يبقى في منزل عمّه الحبيب، لأنّه بلغ سنّ التّكليف، ولم يسمح لنفسه في المبيت في دار عمّه على الأقل لوجود زوجة عمّه في الدّار. فكان الفتى «محمّد تقي» منذ صغر سنّه من أهل المراقبة، أي أنّه كان لا يدخل في مواطن الشّبهة فضلاً عن ابتعاده عن المعصية. ولم يكن ليسهو يوماً عن الحضور والزّيارة لمقام سيّد الشّهداء (عليه السّلام) وأخيه أبي الفضل العبّاس (عليه السّلام)، كما كانت بعض مباحثاته يحضرها بجوار ضريح سيّد الشّهداء (عليه السّلام)، فكان هذا دأب الفتى «محمّد تقي» منذ أوّل نشوئه في المواظبة على زيارة المعصومين (عليهم السّلام) بشكل يوميّ ومنظّم ليبقى ناهلاً من فيض نميرهم الإلهيّ الّذي لايمكن نيله إلا من خلال إخلاص المحبّة والمودّة لهم، وهذا ديدن أولياء الله، وقد كان مكبّاً على العبادة ومقبلاً عليها بكل وجوده قبل التّكليف وكان يهتمّ بالصّلوات المستحبّة فضلاً عن الصّلاة الواجبة، وينقل أحد المطّلعين على أحواله في تلك الفترة أنّه في إحدى المرّات الّتي ذهب فيها لزيارة مسجد السّهلة، كان قد صلّى ركعتين مندوبتين فقرأ في الرّكعة الأولى سورة البقرة وفي الثّانية سورة آل عمران عن ظهر قلب، وهذا يدلّ أنّه كان مهتمّاً بحفظ القرآن وكذلك يدلّ على اهتمامه الشّديد ورغبته الحثيثة بالعبادة لا سيما الصّلاة منذ نعومة أظفاره. كانت الحوزة العلمية في كربلاء آنذاك تزهو بوجود أساتذة كبار ممّا جعل «محمّد تقي» يشمّر عن ساعد الهمّة ويطوي مراحل مهمّة في دراسة الفقه والأُصول خلال سنوات إقامته الأربع فيها، وفي السّنة الثّانية من إقامته ولدى مجيء والده الرؤوف إلى كربلاء المقدّسة جرت مراسم تتويجه العمامة على يد «آية الله الشّيخ جعفر الحائري الفومني (قدّس سرّه)» الّذي كان قد درس على يديه اللّمعتين ، كما قد درس على يد كبار علماء كربلاء في وقتها كـ«آية الله الشّيخ أبو القاسم الخوئي الحائريّ(قدّس سرّه)». وقد واكبت نشاطه الحوزويّ في هذه المُدّة، جهوداً جادّة في مسار تهذيب النّفس وتحصيل معالي الأخلاق من خلال تضرّعه وتوسّله بسيّد الشّهداء (عليه السّلام)، الّذي كان يقضي أوقاتاً معنويّة سامية بجوار حرمه، منحته مرتبة أعظم من المراتب العلميّة الّتي نالها. وأمّا من الناحيّة العلميّة فكان «محمّد تقي» جادّاً في التّحصيل مكبّاً على الدّراسة بكل ما أُوتي من معنويّات ولم يكن ليكتفي بالكتب الدّراسيّة وإنّما يقرأ معها كتب المراجع العلميّة، والتّي لم تكن محلّ اهتمام في المنهج الدّراسيّ لصعوبتها وكثرة تشعّبها. وفي أحد الأيّام أتى أحد العلماء وجلس مقابل حجرته، فخرج «محمّد تقي»، فسأله العالم: هل يوجد عندك كتاب «الكتاب» ؟ فأجابه «محمّد تقي»: نعم! وكان العالم يظنّ أنّ هذا الطّالب لم يكن بمستوى علميّ يمكنه من فهم هذا الكتاب، فقال له: هل تبيعني إيّاه؟ فأجابه «محمّد تقي» بإحراج: نعم! فقال له العالم عندما رآه مُحرجاً: إنّ هذا الكتاب لا يفيدك! عندها بدأ «محمّد تقي» ببيان مطالب هذا الكتاب الصّعب فصلاً فصلاً أمام ذاك العالم المشهور، فَدُهش العالم وبدت آثار الاستغراب والتعجّب على وجهه، وعندما رأى العالم إحاطة هذا الطّالب بمطالب هذا الكتاب بشكل دقيق ومتقن طرح المطلب الّذي كان يريد مراجعته من الكتاب فأبانه الطّالب له وبدأ العالم يستشكل والطّالب «محمّد تقي» يجيب حتّى اجتمع عدد من الطّلبة حول تلك المباحثة بين الطّالب والعالم، وذاع صيت هذه المباحثة النّادرة من نوعها بين الأوساط. وكان العالم بعد ذلك ينصح أولاده وطلبته أن يرافقوه ويتعلّموا منه كيف يدرسون. وينقل أيضاً أحد الفضلاء من أهل العلم وهو من أحفاد أحد كبار العلماء في كربلاء المقدسة أنّه أقبل «محمّد تقي» إلى أستاذه ليسأله عن مسألة علميّة، فأجابه الأُستاذ وذهب كي يجدّد وضوءه، وعندما انتهى أقبل إليه «محمّد تقي» وقد كتب في ورقة مضيفاً على جواب أُستاذه ثمّ أراها للأستاذ سائلاً: هل ما كتبته صحيحٌ؟ هل هذا ما كنتم تقصدونه؟ فنظر إليه هذا الأُستاذ معجباً، وبادره قائلاً: «مرحباً بتلميذٍ أفضل من الأُستاذ!». كربلاء مهد الإعداد للاجتهاد لقد كان لكربلاء المقدّسة، والأجساد الطّاهرة الّتي حوتها تلك التّربةُ الزكيّةُ، والمقامات الخالدة المرتفعة قبابها عالياً، وخاصّة مقام سيّد الشّهداء الإمام الحسين (عليه السّلام)، ومقام صاحب الكفيّن المقطوعتين (عليه السّلام) الّذي له درجة عند الله تعالى يغبطه عليها كلّ الشّهداء يوم القيامة ـ والتّي كان يسكنها الفتى الطاهر «محمّد تقي» ـ فضلٌ كبيرٌ في سبوغ النّعم وحلول البركات ونزول الفيوضات عليه. فضيافة الإمام الحسين (عليه السّلام) لمحمّد تقي كانت استثنائيّة، وذات موائد كبيرة وعوائد عظيمة. وقد أرى الله تعالى الفتى «محمّد تقي» من الكرامات العالية، والآيات الباهرة في كربلاء، ما لم يشهده أحد من العلماء المقدّسين، أصحاب المقامات العالية والكرامات النّادرة، عندما كانوا في مثل عمره حيث إنّه لم يكن حينها بالغاً، وما خفي منها أعظم ممّا ظهر، وقد أضافه الإمام الحسين (عليه السّلام) في زيارته الأولى لمقامه، حيث أدرك ببصيرته وفطرته ـ الّتي لم يدنّسها بارتكاب المعاصي ـ من الحالات المعنويّة ما قلّ نظيرها، ليعلم أنّ هناك علاماتٍ واضحةً لأهل الله تعالى، فيتعرّف عليها ويقتفي أثرها الكامن في قلبه المحبّ لله عزّ وجلّ ولمحمّد وآله الطّاهرين. فضلاً عن اهتماماته بالجوانب العلميّة. فقد بقي صاحب العلم الوفير والقابليّات العالية الفتى «محمّد تقي» في كربلاء المقدّسة مهتمّا بدراسته بدقّة وتفان وإخلاص، حيث درس معظم «الرّسائل» و«المكاسب» في كربلاء المقدّسة ـ الّتي كانت أفضل مدرسة لتأسيس الطّالب للاجتهاد، حيث ينهل فيها الأُصول بطريقة علميّة قويّة ومتينة ـ إلى أن اشتدّ بنيانه العلميّ وأصبح مهيّئا للوفادة إلى مدينة النّجف الأشرف، حيث مرقد يعسوب الدِّين وإمام المتّقين عليٍّ أمير المؤمنين (عليه السّلام)، حيث تمتدّ جذور الحوزة العلميّة المجيدة إلى ألف عام، وهي محطّ رحال العلماء وملتقى الفقهاء ومأوى العرفاء، والّتي تضمّ بين أرجاء حوزاتها العلميّة كبار العلماء المتخصّصين في أبحاث السّطوح والبحث الخارج، ليكمل الطّالب المجتهد «محمّد تقي» ـ الّذي جعل الله تعالى له نوراً يمشي به ـ مسيرته العلمية والعملية، حيث كان منذ نعومة أظفاره يولي العمليّة الدراسيّة اهتماماً قلّ نظيره واستمرّ كذلك في كافة مراحله العلميّة.
وها هو اليوم يستعدّ للوفادة إلى الغريّ «النّجف الأشرف»، وفي قلبه حرارةٌ للإمام الحسين (عليه السّلام) لم ولن تبرد أبداً. وذلك في سنة 1312 هـ .ش، حيث توجه «الشّيخ محمّد تقي البهجة» إلى النّجف الأشرف، قاصداً باب أمير المؤمنين (عليه السّلام)، الّذي هو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه و آله)، متوسّلاً به أن يفيض عليه ويساعده في نيل العلوم العالية والكمالات السّامية. ومن الجدير ذكره أنّ مسقط رأس سماحته أي مدينة فومن الإيرانية، لم تكن مدينة عاديّة بل كانت مدينة ذات أشجار وفيرة وطبيعة ساحرة ومناخ لطيف يهيم الناظر لها في نضارة صنعها، ولكن سماحة «الشّيخ محمّد تقي» لم يكن يعير اهتماماً لهذه الجنّة الظاهريّة مقابل الجنّة الحقيقيّة في نظره، ألا وهي الرّوضة الحيدريّة في غريّ النّجف الأشرف، الّتي تضمّ مرقد الإمام أمير المؤمنين صلوات الله وسلامه عليه، وذلك على رغم شدّة الحرّ فيها، حيث لم يكن فيها سوى شجرة واحدة كانت في صحن حرم أمير المؤمنين (عليه السّلام)، فآثر الشّيخ محمّد تقي طلب العلم والسّير إلى الله مع تلك الصّعوبة الّتي كان يعانيها أغلب طلبة العلوم الدّينية من قلّة الدّخل وعسر المعيشة، لكنّها الرّوضة الإلهيّة الّتي لا يعرف معناها إلا من تذوّق من نمير معينها الّذي لا ينضب حبّاً وعشقاً إلهيّاً، ويبقى الشّيخ محمّد تقي مواصلاً طريق الجدّ والاجتهاد في العلم والعمل بكل شوق وشغف. فلقد دخل إلى النّجف الأشرف وهو في ريعان شبابه، حيث لم يتجاوز الثّامنة عشرة من عمره حاطّاً رحاله في «مدرسة السّيّد محمّد كاظم اليزدي(قدّس سرّه)» لتكون له مستقرّاً ومقاماً، والّتي كانت من أكثر المدارس بركة وفيضاً، حيث كانت مألفاً للكثير من العلماء الربانييّن، وفي البداية مكث الشّيخ محمّد تقي في إحدى الزّوايا الضّيقة في المدرسة والّتي لم تكن لتتّسع لجسمه النّحيل، وذلك بسبب امتلاء حُجَرِ المدرسة، ثم انتقل إلى حجرة في الطّابق الأرضي، ومن بعدها انتقل إلى غرفة في الطّابق الثّاني كي لا يشغله شاغل ولا يمنعه مانع من الدّرس والعبادة، حيث كان الطّابق الأرضي تقام فيه جلسات حواريّة يتمّ فيها تجاذب أطراف الحديث، الأمر الّذي كان مدعاةً لِنُفور سماحته، إذ إنّه كان حريصاً على آنات عمره ولحظاته منذ البداية، وإحدى الحجرات الّتي سكنها سماحته كانت بجوار حجرة آية الله الشّيخ مرتضى الطالقاني (قدّس سرّه) والأخرى كانت مقابل حجرة الشّيخ محمّد رضا المظفّر (قدّس سرّه) ويُذكر أنّ الشّيخ محمّد تقي مرض في أثناء إقامته في غرفته الصّغيرة في المدرسة، فجاء لعيادته آية الله السّيّد الخوئي وآية الله السّيّد الميلاني (قُدِّست أسرارهما) فما كادت الغرفة لتتّسع من شدّة ضيقها. وفي بداية قدومه للنجف الأشرف أكمل «الشّيخ محمّد تقي» القسم النّهائي من الرّسائل والمكاسب ، حيث أنهى دراسة السّطوح لدى كبار العلماء الأجلاّء العظماء في النّجف الأشرف، وهم: آية الله الشّيخ مرتضى الطالقاني وآية الله السّيّد الشّاهرودي، وآية الله السّيّد الميلاني، وآية الله السّيّد الخوئي، والشّيخ علي محمّد البروجردي قدّس الله سرّهم جميعاً.
فكما كان في كربلاء المقدّسة ذا نجم لامع وصيت ذائع من النّاحية العلميّة، فهنا أيضاً في النّجف الأشرف ذاع صيت سماحته من بين أقرانه، ومن القصص الّتي تبيّن نبوغه: عندما بدأ سماحته بحضور درس كفاية الأصول لدى العالم الكبير آية الله السّيّد محمود الشّاهرودي(قدّس سرّه) ـ والّذي كان من تلاميذ الآخوند الخراساني ـ وكان الشّيخ «محمّد تقي» أصغر الطّلبة سنّا، حيث إنّه لم يكن قد تجاوز الثّامنة عشرة من عمره الشّريف، ولم تكن لحيته قد نبتت بعد، وفي يوم من الأيام استشكل الشّيخ محمّد تقي البهجة على مطلب الأستاذ السّيّد الشّاهرودي، فأجابه السّيّد الشّاهرودي فأورد عليه الشّيخ البهجة إشكالاً آخر، وصار بينهما أخذ وردّ، وفي اليوم التّالي قام الطّلبة بمعاتبته والإنحاء باللّوم عليه، بل إنّ بعضهم قال له كلمات غير لائقة، وقالوا له: لم تستشكل على الأُستاذ مع حضور الطّلبة الأفاضل الأكبر منك سنّاً؟! وفي أثناء ما كانوا يعاتبونه، دخل آية الله الشّاهرودي من باب المسجد وشعر بالموضوع، فقال للطلبة: «ابقوا في شأنكم ودعوه في شأنه!» فسكت الطّلبة جميعاً، واستمر آية الله السّيّد الشّاهرودي قائلاً لهم: «طالعت البارحة تقريرات درس الآخوند(قدّس سرّه)، ورأيت أنّ الحقّ معه أنتم لا تنظروا إلى صغر سنّه إذ يبدو أنه يمتلك استعداداً وقابليّة [علميّة]!» وبعد ذلك بدأ بمدح الشّيخ البهجة وجدّيته ونبوغه العلميّ. الأمر الّذي جعل الطّلبة يخجلون من أنفسهم. وقد لقّبه أُستاذه العالم العارف آية الله السّيد علي القاضي(قدّس سرّه) بالفاضل الجيلاني، لقضيّة حصلت معه؛ فقد كان الطّلبة من الأتراك أكثر إحاطةً بقواعد اللّغة العربيّة، ولا سيما السّيد القاضي (قدّس سرّه) الذي كان أديباً بارعاً ومنقطع النّظير في الأدب العربيّ وكان يحفظ أربعين ألف كلمة من الكلمات العربيّة، كما كان صاحب قصائد موزونة بالعربيّة، وفي أحد الأيّام أراد أن يرجع لكتاب لغوي لترجمة إحدى الرّوايات، فأتوا له بكتاب القاموس ووجدوا مفرد هذه الكلمة وكان هناك بيت شعر في ذيل المفردة، فلم يستطع الأستاذ أن يعربها، وحاول عدّة من الطّلبة الموجودين فلم يتمكّنوا أيضاً من ذلك، فأخذ الشّيخ البهجة الكتاب وكان أصغرهم سناً وقرأه بدقّة وبصورة جيّدة، فتعجّب السّيد القاضي (قدّس سرّه) كثيراً و نال إعجابه كثيراً، وقال له بالعربيّة: «أشهد أنّك فاضل!». وعلى إثر هذا كان يناديه أكثر الأوقات بالفاضل الجيلاني. وعندما أنهى مرحلة السّطوح شرع في البحث الخارج لدى أساتذة من الطّراز الأوّل، ومحضر أساطين الفقه والأصول وعلوم ومعارف أهل البيت (عليهم السّلام)، ففي الأُصول حضر عند آية الله الشّيخ آقا ضياء الدّين العراقي (قدّس سرّه) وآية الله الميرزا النّائيني (قدّس سرّه) وأهم من حضر لديهم هو آية الله الشّيخ محمّد حسين الأصفهاني المعروف بالكمباني (قدّس سرّه) الّذي كان يتمتّع بفكر نافذ فلسفيّ علميّ دقيق، حيث تتلمذ عليه مدّة طويلة إلّا أنّ أفكار هذا الأستاذ الفذّ لم تكن في مأمنٍ من نقد هذا التّلميذ وإشكالاته المتتابعة إلى الحدّ الّذي أصبح فيه من أفضل تلامذة هذا الفقيه الكبير. ولم تقتصر إفادته من أُستاذه هذا على الجوانب العلميّة بل نال منه أيضا فيوضاتٍ معنويّة وفوائد أخلاقيّة عالية كانت آثارها مشهودة في سيرته العمليّة. وأما في الفقه فقد درس عند آية الله الشّيخ محمّد كاظم الشّيرازي (قدّس سرّه). ناهيك عن حضوره درس الفقيه البارز صاحب المقام الشّامخ آية الله السّيد أبو الحسن الأصفهاني(قدّس سرّه) ، إذ نال منه الحظّ الوافر والعلم الظّافر والّذي كان يهتمّ بسماحة الشّيخ البهجة اهتماماً بالغاً، وسيأتي ذكر بعض ذلك في محلّه إن شاء الله تعالى. وإضافة لدراسة الفقه والأُصول اعتنى الشّيخ محمّد تقي بدراسة الفلسفة والعلوم العقليّة، ودرس في هذا المضمار: «الإشارات والتّنبيهات» و«الأسفار الأربعة» عند السيّد حسين البادكوبي (قدّس سرّه). وبالإضافة إلى كلّ هذه الجهود الّتي بذلها والفوائد الّتي حصل عليها من علماء الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف، إلّا أنّ هناك شخصيتين تركتا بصماتهما وآثارهما العلميّة والمعنويّة على شخصيته: أوّلهما: العلّامة الكبير آية الله العظمى الشّيخ محمّد حسين الغروي الأصفهاني المعروف بالكمباني(قدّس سرّه). ثانيهما: العارف الأوحد آية الله الميرزا السّيد علي القاضي(قدّس سرّه). الّذي وجد فيه الشّيخ البهجة ضالّته المنشودة منذ دخوله النّجف الأشرف حينما كان له من العمر ثماني عشرة سنة، فتتلمذ على يديه والّذي كان درسه فيضاً من المعين المعنويّ. وقد أصبح محطّ أنظار أساتذته لما كانوا يلاحظون عليه من الذّكاء المفرط ودقّة النّظر والذّهنيّة الوقّادة، حينما كان يطرح إشكالاته العلميّة على أساتذته خلال الدّرس، وفي هذا السّياق ينقل آية الله السّيد عبّاس الكاشاني(قدّس سرّه): «إنّ الشّيخ محمّد تقي [البهجة] كان يلزم السّكوت ولا يطرح الإشكالات وعندما عرف آية الله الشّيخ محمّد كاظم الشيرازي (قدّس سرّه) تلميذه الشّيخ محمّد تقي عن قرب وأنّه ليس طالباً عاديّاً وعرف أيضاً مدى ذكائه ودقّته وعلميّته، أفتى عليه بوجوب أن يطرح كلّ ما يدور في ذهنه من إشكالات ومداخلات في أثناء الدّرس». وممّا يدلّ على وفرة علمه أيضاً ما ينقله آية الله العلّامة الشّيخ محمّد تقي الجعفري(قدّس سرّه): «عندما كنّا ندرس خارج المكاسب عند الشّيخ محمّد كاظم الشّيرازي (قدّس سرّه) كان يدرس معنا آية الله البهجة، وأتذكّر جيّداً لمّا كان يطرح إشكالاً خلال الدّرس كان أستاذنا الشّيخ كاظم يستمع إليه بكامل وجوده، أي أنّه كان يُصْغِي جيداً وبدقّة وعمق إلى إشكالات الشّيخ البهجة، وفي تلك المدّة عرف سماحته بالعلميّة والمعرفة» . كما ينقل آية الله السّيد عبّاس الكاشاني (قدّس سرّه) أنّه بعد حكم آية الله الشّيخ محمّد كاظم الشّيرازي (قدّس سرّه) على الشّيخ البهجة بوجوب طرح إشكالاته بدأ الشّيخ البهجة بطرح إشكالاته في درس آية الله الشّيخ محمّد حسين الأصفهاني الكمباني (قدّس سرّه) وكان يملأ الدّرس بها. وينقل أحد علماء النّجف الأشرف: «أنتم ترون آية الله العظمى الشّيخ البهجة ساكتاً هكذا، [لكن] لقد كان سماحته في درس آية الله العظمى الغروي الأصفهاني (قدّس سرّه) لا يعطي مجالاً للأُستاذ، وكان يُشْكِلُ إشكالات عميقة وعظيمة المحتوى» . ووصل هذا الأمر لأسماع آية الله العظمى السّيد الميلاني (قدّس سرّه) فابتسم ابتسامة رضا وقال: «عندما وجدته مستعدّاً هيّأته لدرس الشّيخ » . وهنا ينبغي الالتفات إلى أنّ الشّيخ الأصفهاني (قدّس سرّه) كان هو صاحب المدرسة الفكريّة الأصوليّة المنقطعة النّظير، والّتي خريجوها هم من فحول العلماء، ولهذا فإنّ إشكالات الشّيخ البهجة على مثل هذا العالم الفذّ وعناية الأستاذ بإشكالاته واهتمامه به يدلّ على مكانته العلميّة الاستثنائيّة المتميّزة. وممّا يدلّ على عظيم منزلته العلميّة في حوزة النجف الأشرف الكبرى لدى كبار العلماء والمراجع العظام والكاشف عنه تصريحهم بذلك ومنحهم إيّاه تاج الكرامة لكونه قد حاز على ما لم يحزه إلّا الأقلّون، ما ينقله العالم الكبير المرحوم السيّد عبّاس الكاشاني(قدّس سرّه): «إنّ سماحة آية الله العظمى السيّد محمّد تقي بحرالعلوم (قدّس سرّه) والّذي كان من العلماء المشهورين والمراجع الكبار في النّجف الأشرف وكان له درسان يومي الخميس والجمعة، أحدهما درس للأخلاق والآخر درس للتّفسير، وكان يسمّي هذين اليومين بيوميّ التّحصيل في أيّام التّعطيل، وفي أحد الأيّام في أثناءِ درس الأخلاق تفضّل سماحته قائلاً: إنّ الإمكانات الدراسيّة للطّلبة في هذه الأيّام جيّدة جداً، ويجب على الطّلبة أن يجدّوا ويتعبوا في طلب العلم، في هذه الأيام هناك عدّة أشخاص مجدّون في تحصيلهم ويدرسون جيّداً وذكر من جملتهم اسم الشّيخ محمّد تقي الفومني (البهجة)» . ويدلّ على مكانته المرموقة فكريّاً وعلميّاً، ما حكيَ عن سماحته في أثناء حضوره هو وزميله آية الله الشّيخ الميرزا علي أكبر المرندي لدى آية الله السّيد الخوئي (قدّس سرّه) درساً في الأُصول لكون السيد الخوئي أقدم منهما في درس آية الله الشّيخ محمّد حسين الأصفهاني (قدّس سرّه)، وفي أحد الأيام توجّه الشّيخ محمّد تقي البهجة إلى كربلاء للزّيارة ولم يحضر الدّرس وعندما التقى بالسّيد الخوئي بعدها قال له السّيد الخوئي: لقد غاب عنك مطلب مهمّ من المطالب الّتي انفردت في طرحها ولم يسبقني أحد فيها، ولكن هنا فوجئ السّيد الخوئي بأنّ الشّيخ محمّد تقي البهجة يجيبه: هل تقصد المطلب الفلانيّ كذا وكذا؟! فَدُهش السّيد الخوئيّ متعجبّاً، وظل يحدق في وجهه للحظات لما رأى من الفطانة العلميّة لدى الشّيخ البهجة. وهذا إن دلّ على شيء فإنّما يدلّ على أنّ سماحته كان يتماشى في التفكير كما هو عليه أُستاذه أو مُباحِثُه، حتّى يعلم من أين يبدأ وإلى أين سيصل في المطلب العلميّ، ولا يخفى على أهل الإطّلاع أنّ هذا ممّا يدلّ أنّ صاحبه صاحب عقليّة مرموقة وقدرة استنباطيّة متميّزة.
لم تمض الأيّام الكثيرة على نزول الشّيخ البهجة في مدينة باب مدينة علم رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلى مشرّفها آلاف التّحيّة والسّلام، حتّى صار مشاراً له بالبنان، ومحلّاً للاهتمام من كبار العلماء الأعلام، وما جاء في هذا الكتاب من قصص تدلّ على ذلك هو غيضٌ من فيض. ينقل العالم الربانيّ صاحب المصنّفات والمؤلّفات الكثيرة آية الله العلّامة السّيد عبّاس الكاشاني(قدّس سرّه) في مَعْرِضِ كلامه حول الشّيخ المقدّس البهجة (البالغ مناه): «في مدّة الزّعامة المطلقة لرجل الإسلام العظيم والمرجع الأعلى الفريد من نوعه المرحوم آية الله العظمى السيّد أبو الحسن الأصفهاني(أعلى الله درجته) في النّجف الأشرف، درس سماحة الشّيخ البهجة في تلك المُدّة على يد أساتذةٍ عظماء، أذكر في ذلك الوقت بعضاً من الشّباب المجدّين المجتهدين في الحوزة المقدسة وكان من بينهم العالم العامل والزّاهد النّاسك والمتهجّد الورع سماحة الشّيخ محمّد تقي الفومني [البهجة] (أدامه الله للإسلام ذخراً وللمسلمين ملاذاً) الّذي كان حقيقةً يُشار إليه بالبنان (لعلمه وفضله وورعه) والّذي كان من مفاخر أهل العلم في الحوزة آنذاك وكثيرٌ من أفاضل تلك الحوزة كانوا يغبطونه على مقامه» . نعم، فقد كان منذ بداية ارتياده طريق العلم كما عرّفه السيّد الكاشاني(قدّس سرّه) بل أكثر من هذا حيث كان مورد اهتمام خاص ومتميّز لدى المرجع الأعلى في العالم الإسلامي في وقته وهو السّيد أبو الحسن الأصفهاني (قدّس سرّه)، حيث ينقل أيضاً العلّامة السّيد عبّاس الكاشاني(قدّس سرّه): «و حقيقةً لم يكن له [أي للشيخ البهجة] مثيلٌ في آدابه وسلوكه وطريقة اكتسابه للعلوم والفنون، وكان موضع اهتمامٍ خاصٍّ ومهمّ من المرحوم السّيد الأعظم الأصفهاني (عطّر الله مرقده). ولهذا كان سماحة الشّيخ البهجة في تلك المُدّة ـ على الرّغم من أنّه كان في عنفوان شبابه ـ ولكنّه كان يُعَدّ من أفاضل حوزة النّجف الأشرف الكبري» . نعم فعلى الرّغم من أنّه كان في مقتبل العمر لكنّه لما كان يحمله من العلم والفضل وما هو عليه من التقوى والورع، فقد أصبح جديراً بالمحبّة والثّناء من قبل أساتذته كالمرجع الكبير السّيد أبو الحسن الأصفهاني(قدّس سرّه)، وفي هذا السّياق يذكر آية الله العلّامة السّيد عبّاس الكاشاني(قدّس سرّه): «في أحد الأيّام تشرّفت بزيارة الروضة المطهّرة لسّيد الموحّدين أمير المؤمنين علي عليه أفضل صلوات المصلّين والتقيت هناك بأحد أساتذتي الأجلّاء العالم العامل المتّقي آية الله السّيد أحمد الإشكوري (رفع الله في الخلد مقامه) ، وبعد التحيّة والسّلام مع سماحته فجأة دخل سماحة الشّيخ البهجة إلى الرّوضة المطهّرة وهو في حالةٍ من الخضوع والاِنكسار والتوجّه الخاصّ، واشتغل مباشرةً بزيارة الأمير (عليه السّلام) دون أن يلتفت إلى أيّ أحد. فقال الأستاذ سماحة السيّد أحمد الإشكوري: أنا أستلذّ كثيراً لرؤية هذا الشّيخ [يعني الشّيخ البهجة] وأغبطه على حاله، هو حقاًّ شابٌّ عالمٌ وفاضلٌ وزاهدٌ ورعٌ تقيٌّ، وقد اشتغل بتحصيل علوم آل محمد بكل جدٍّ، أرجو من الله أن يكثّر من أمثاله الأجلاّء في الحوزة المقدّسة. ثم أضاف: نفس السيّد أنار الله برهانه [سماحة آية الله العظمى السيّد أبوالحسن الأصفهاني] يحبّه كثيراً ويذكره ويثني عليه كثيراً» . ويضيف العلّامة السّيد عبّاس الكاشاني(قدّس سرّه) أيضاً: «نقل لي أحد أصدقائي وهو من أفاضل الحوزة، كنت في أحد الأيّام جالساً في حضرة آية الله العظمى السّيد أبو الحسن الأصفهاني ـ العالم الكبير الّذي قلّ مثيله بين علماء الإسلام ـ فجأةً دخل علينا سماحة الشّيخ البهجة فقام السّيد الأصفهاني (قدّس سرّه) من مكانه لأجله بكل إجلال، وأخبرني أنه قلّما رأيت السيّدَ يفعل ذلك لأحد!» . نعم، فقد كان السّيد الأعظم أبو الحسن الأصفهاني(قدّس سرّه) وعلى رغم عظم شأنه وكبر سنّه يقوم من مقامه احتراماً له ويجلّله إجلالاً، وقلّما يفعل هذا مع أحد ٍآخر، وهذا الفعل من سماحته ممّا يثير الدّهشة، لكنّه معذور حقّاً، فقد كان يعرف من هو هذا الشّاب وما هي منزلته الرّفيعة. ويضيف العلّامة السّيد عبّاس الكاشاني(قدّس سرّه) أيضاً: «من جهةٍ أخري كان سماحة الشّيخ موضع احترام الكبار، من جملتهم الزّاهد النّاسك المرحوم السّيد القاضي (قدّس سرّه القدّوسي) الّذي كان متعلّقاً بسماحة الشّيخ البهجة جدّاً» . وينقل آية الله الرّضوي البنارسي(قدّس سرّه) أنّه في إحدى المرّات مرض الشّيخ البهجة لعدّة أيّام ولم يستطع أن يحضر درس أُستاذه آية الله العالم العارف السيّد علي القاضي(قدّس سرّه)، فكتب إليه أُستاذه رسالة نصُّها: «إنّ شوقي إليك كالمجدب مطراً!» وهذا إنّما يدلّ على المحبّة الفائقة من الأستاذ لتلميذه المجدّ المجتهد الّذي نال درجة سامية ورتبة عالية. وينقل آية الله الرّودباري أنّه قال لي آية الله الزّاهد (قدّس سرّه): «في أحد الأيّام كنت في خدمة آية الله الشّيخ البهجة، في الطّريق التقينا بسماحة الشّيخ محمّد كاظم الشّيرازي [الّذي كان أحد أساتذة الشّيخ البهجة]، ورأيت أنّ ذاك الأستاذ الكبير قد توقّف خصّيصاً لأجل الشّيخ البهجة وأبدى لسماحته فائق العناية والتفقّد، ومن خلال الاحترام الخاصّ من قِبَلِ الأستاذ للشّيخ البهجة عرفتُ أنّ له منزلةً خاصّة لدى أساتذته» .
عند الكلام حول فقاهة عالم وزهده وتقواه وورعه ينبغي التأني والدّقة في ذلك حتّى لا يضيع حقُّ من له حقّ على المؤمنين من الفقهاء والربّانيين من العلماء، فتراث العلماء أمانةٌ لا ينبغي أن تقف عند يد من وصلت إليه، بل ينبغي نشرها، كونهم حجّة بيننا وبين الإمام الحجّة المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، والشّيخ البهجة (البالغ مناه) ـ وفي الفترة الّتي استقرّ بها في مهد الولاية والعلم أي النّجف الأشرف ـ كان حائزاً قصب السّبق في هذه الأمور العلميّة. وفي هذا السّياق ينقل آية الله السّيد أحمد الفهريّ(قدّس سرّه): «بالمشيئة الإلهيّة والربوبيّة، إنّ تَمَحُّضَ وتوغّلَ سماحتِه بالدّرس والتّدريس صار باعثاً لأن يصل سماحته درجة الاجتهاد الرّفيعة قبل زملائه والّذين وردوا إلى الحوزة معه بنفس المُدّة» . ثم يضيف السّيد الفهري (قدّس سرّه): «أذكر أنّني طلبت منه يوماً أن يدرّسني كتاب رسائل الشّيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، فقال لي في مَعْرِض الاعتذار: لقد قال لي آية الله العظمى الشّيخ الكمباني ـ نابغة العصر ذاك، والأجدر في أكثر العلوم ـ : إنّ التّقليد حرام عليك ويجب أن تعمل باجتهادك، لذلك أتحرّى المسائل التّي هي مورد ابتلاء لديّ، ولا مجال لديّ لأُقدِم على عملٍ آخر» . كما أصبح سماحته بعد هذه المُدّة يعدّ من كبار المدرّسين للسّطوح العالية في الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف. وممّا يدلّ على منزلته العلميّة السّامية وبنفس الوقت على شدّة تواضعه، ما ينقله في ضِمْنِ مجلسه الخطيب الجليل الشّيخ علي ابن المحدِّث القدير الشّيخ عبّاس القمّي (نوّر الله ضريحه) صاحب كتاب مفاتيح الجنان، أنّه في أثناءِ إلقائه خطبته دخل العالم الشّيخ البهجة (البالغ مناه)، وجلس في مكان عادي بين الحضور، ولما رأى الشّيخ علي أنّ الشّيخ البهجة (البالغ مناه) جلس بين النّاس وترك المكان المخصّص للعلماء والفضلاء ، أخذته الدّهشة وقال في خطبته: «لقد درست الكفاية في النّجف الأشرف لدى الشّيخ البهجة، وسماحته كان يعدّ من علماء وأساتذة النّجف الأشرف!». فكان من نشاطاته (قدّس سرّه القدّوسي) في النّجف الأشرف هو تدريس السّطوح العالية، لكن خفي أسماءُ بعض طلبته، بل كان سماحته يعرض عن الجواب تواضعاً إذا سئل عن ذلك، ولكن عرف بعض طلبته من خلال تصريحهم بأنفسهم، ومن المشهورين الّذين درسوا عند سماحته هم: آية الله العالم الربّاني السّيد عبد الكريم الكشميري (قدّس سرّه) حيث درس الرّسائل والسّطوح، الشّيخ علي ابن الشّيخ عبّاس القمّي(قدّس سرّه)، وآية الله السّيد مهدي الرّوحاني (قدّس سرّه)، وآية الله الشّيخ علي القرني (قدّس سرّه) الّذين درسوا الكفاية عند سماحته، وبعض طلبته أصبح صاحب رسالة عمليّة، ونكتفي دون ذكر الاسم. وإضافة إلى تدريسه اشتغل هو والمحدّث الكبير الشّيخ عبّاس القمي(قدّس سرّه) في تأليف كتاب «سفينة البحار» وهذا كان لا يُعرف إلا بين الخواصّ، لعدم رغبة سماحته بالشُّهرة ولا تزال النّسخة الخطيّة موجودة بخطّ سماحته.
وعند الحديث حول تعبّد الشّيخ البهجة فقد لا يمكن لبضع كلمات أو سطور قليلة أن تعبّر عن مدى حبّ الشّيخ وتعلّقه بالأمور العباديّة، فقد كان حقّاً مثالاً لرجل العلم والعمل، ومصداقاً بارزاً لقولهم (عليهم السّلام): «أفضل الناس من عشق العبادة ، فعانقها وأحبّها بقلبه وباشرها بجسده وتفرّغ لها ، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا، على عسر أم على يسر» . وفي هذا المضمار هناك كمٌّ كثيرٌ من القصص الّتي تحكي عن تعبّد سماحته وحالاته المعنويّة المميّزة، وانقطاعه إلى بارئه منذ عنفوان شبابه، والّتي تمّ تداولها بين الأوساط العلميّة في الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف، فلم تكن هذه القصص مرويّة عن أشخاص عادييّن بل تمّ نقل القصص الموثّقة من قبل كبار العلماء المعاصرين لسماحته. وإحدى هذه الشّهادات على انقطاعه وإقباله على بارئه بكل كيانه، ما ينقله آية الله الشّيخ جواد الكربلائي(قدّس سرّه) صاحب موسوعة شرح الزيّارة الجامعة الكبيرة: «أنا بنفسي كنت أراه في النّجف الأشرف عندما يذهب إلى الدّرس أو يتشرّف لزيارة أمير المؤمنين (عليه السّلام) كان يغطّي رأسه بعباءته ويتوجّه إلى الدّرس أو الزّيارة دون أن يلتفت إلى أيّ أحد» . وحالة أخرى من حالاته المعنويّة الّتي ينقلها الشّيخ جواد الكربلائي(قدّس سرّه) عن أحد العلماء المشهورين: «إنّ الشّيخ البهجة كان جادّاً في صلاة اللّيل والبكاء في آناء اللّيل. رأيته في ليلة الجمعة في مدرسة السّيد رحمه الله في النّجف الأشرف وكان منتصف اللّيل، سمعت سماحة الشّيخ يناجي الله تعالى بصوتٍ حزينٍ وهو ساجد ويردّد هذا الذكر: إلهي من لي غيرك أسأله كشف ضرّي والنّظر في أمري» . وممّا يدلّ على العناية الإلهيّة الخاصّة بسماحته ما ينقله آية الله الحاج الشّيخ عبّاس الهاتف القوچاني(قدّس سرّه): «أنّ آية الله العظمى البهجة كان يذهب كثيراً إلى مسجد السّهلة ويبيت فيه اللّيل وحيداً حتّى الصباح. إحدى اللّيالي الّتي كانت مظلمة جدّاً، ولم يكن هناك نور متّقدٌ في المسجد، واحتاج سماحته منتصف اللّيل إلى تجديد الوضوء، أراد أن يخرج من المسجد وأن يتوضّأ في مكان الوضوء ـ الّذي كان يقع خارج المسجد في الضّلع الشّرقي منه ـ فجأة بأثر عبور هذه المسافة في الظّلام المحض والوحدة شعر سماحته بقليل من الخوف. بمجرّد أن خاف، أضاء له مباشرة نور أمامه مثل السّراج وتحرّك معه وخرج سماحته مع ذاك النّور وتطهّر وتوضّأ، وعاد إلى مقامه والنّور يتحرّك مقابله في كلّ هذه الأحوال، إلى أن وصل مكانه ثمّ ذهب ذلك النّور» . وإثر تعلّقه بساحة القدس وتمسّكه بالعروة الوثقى والحبل الوثيق المتّصل بين السماء والأرض واقتدائه الحقيقي بالمنهج القويم لأهل البيت (عليهم السّلام)، فقد منحه الله سبحانه ما يمنح لأوليائه المخلصين له في التّوحيد والمطيعين له في السرّ والعلانية، وهذه الكرامة هي إحدى ما وهب الله سبحانه لعبده الشّيخ محمد تقي البهجة (البالغ مناه)، حيث ينقل الشّيخ جواد الكربلائي(قدّس سرّه): «كنّا في جلسةٍ خاصةٍ مع المرحوم آية الله الشّيخ عبّاس القوچاني الّذي كان من تلامذة آية الله الحاج ميرزا علي القاضي ووصيّه ، وبعد التعريف والتمجيد الكثير بسماحة الشّيخ البهجة قال لي: في سفري إلى إيران لزيارة الإمام الرضا (عليه السّلام)، تشرفت بزيارة سماحة الشّيخ البهجة وفي جلسةٍ خاصة وبعد إصراري الشّديد طلبت من سماحته أن يُحدّثني عن أحواله الشخصيّة وألطاف الباري تعالى عليه، وبعض مكاشفاته، فحدّثني تقريباً عن عشرين أمراً مهمّاً ولطفٍ إلهيٍّ خاصٍّ وهبها الله تعالى له، وأخذ عهداً منّي بأن لاأطلِع أحداً عليها لكنيّ أخبرت بعض الأصدقاء عن واحدةٍ منها. «[يقول الشّيخ الكربلائي:] وأصررت على آية الله الشّيخ عبّاس القوچاني (قدّس سرّه) أن يخبرني عن هذا المورد الواحد. فقال لي. قال سماحة الشّيخ البهجة: إذا أردت، أستطيع أن أرى أيّ شيءٍ وراء ظهري» . وينقل آية الله النجفي (قدّس سرّه) والذي كان أحد طلبة السيّد القاضي (قدّس سرّه): «إنّه كلّما كان يتأخّر الأُستاذ السيّد القاضي(قدّس سرّه) عن الحضور إلى الدرس كان الطلبة ينقلون ما ينزل عليهم من مواهب إلهية نتيجة ما يقومون به من تهذيب للنفس، وفي أحد الأيّام جاء دور سماحة الشيخ محمد تقي البهجة، ولكنّه لم يتكلّم عن المواهب الإلهية والكرامات التي تحصل معه، وإنّما بدأ يتكلّم عن أحوال الأُستاذ وما يقوم به في نفس تلك اللحظات، فقال: لقد دخل السيّد الآن إلى النهر، بدأ السيّد الآن بالغسل، انتهى السيّد من الغسل، خرج السيّد من النهر، لبس السيّد ملابسه، السيّد الآن في طريقه إلى هنا، أوقفه الآن أحد السادة وصار يسأله سؤالاً، السيّد الآن توجّه إلى هنا، وصل السيّد الآن خلف الباب. يقول آية الله النجفي: في نفس تلك اللحظة دخل سماحة السيّد القاضي(قدّس سرّه) ونظر للشيخ البهجة وابتسم وقال له: «لقد زرعت اليوم وردةً!» . وقد غمره السيّد القاضي حقاً بلطفه وعنايته، وعلى الرّغم من أنّه كان في عنفوان شبابه فقد استطاع أن يطوي مراحل مهمّة في السّير والسّلوك، ممّا جعل الآخرين يغبطونه على ذلك وصار محطّ إعجاب واهتمام أستاذه القاضي حتّى أصبحوا يلقبونه بالفاضل الجيلاني . ناهيك عن كسبه تجارب عرفانيّة من فحول أساتذته في هذا المجال ، وينقل آية الله الشّيخ محمّد الغروي صاحب كتاب الأمثال في نهج البلاغة، أنّه شاهد العالم العارف السيّد عليّاً القاضي في مسجد السّهلة يأتمّ بتلميذه الشّيخ البهجة الّذي حاز مرتبة قلّ نظيرها في العبوديّة، كما وينقل أيضاً الشّيخ آقا ضياء الآملي نجل الشّيخ محمّد تقي الآملي أنّه قد رأى آية الله السّيد القاضي مراراً وتكراراً وهو يقتدي بالشّيخ البهجة، ومن لديه أدنى معرفة يعلم أن أمثال هؤلاء العظام لايعرفون للمجاملة شخصاً ولا يُعيرون لها وزناً في حياتهم فما يقومون به هو عين ما يريدون، أي أنّ اقتداء السّيد القاضي بالشّيخ البهجة في الصّلاة كان لما يراه في صلاة هذا الشاب من العروج والانقطاع الكامل عمّا سوى الله، وهذا وسام شرف خاصّ بالشّيخ البهجة دون غيره. وأمّا الوسام الأكبر فهو ما ينقله أحد طلبة السّيد القاضي (قدّس سرّه) وأحد أبناء كبار العلماء في أصفهان أنّ السّيد القاضي (قدّس سرّه) كان يُرجِع الآخرين إلى تلميذه الشّيخ البهجة حيث كان يقول: من بعدي الشّيخ ابراهيم السّيستاني ـ الّذي كان صهراً للسّيد القاضي ـ ومن بعده هذا [أي الشّيخ البهجة] وكان يضع يده على كتفه . ويقول آية الله الشيخ المصباح اليزدي: «من جملة الأشخاص الّذين كانوا يروون أنّ لسماحة الشّيخ البهجة كمالاتٍ رفيعة، هو الشّيخ عباس القوچاني خليفة المرحوم السيّد القاضي في المسائل الأخلاقيّة والعرفانيّة، والّذي كان يقيم في النّجف الأشرف. كان الشّيخ عبّاس يقول: عندما كان الشّيخ البهجة شابّاً ولم يبلغ العشرين من عمره بعد (كما أذكر أنّه استخدم تعبيراً آخر وهو أنّه لم تنبت لحيته بعد) كان قد وصل إلى مقاماتٍ عرفنا بها من خلال صداقتنا الحميمة معه، وكان قد أخذ عهداً منّا أن لا نُخبر بها مادام حيّاً، كان قد وصل إلى هذه المقامات وعمره سبع عشرة أو ثماني عشرة سنة، ومن جملتها مسألة الموت الاختياريّ. هكذا شخصٌ وصل إلى هكذا درجة قبل أن يبلغ العشرين من عمره، فما بالك بعد هذا السّير السّلوكيّ العرفانيّ إلى أن وصل إلى الثّمانين من عمره، وما هي الدّرجة والمقرُبة من الله تعالى الّتي قد وصل إليها» . وينقل نجل آية الله الشّيخ عبّاس القوچاني أنّه سمع من والده: «كنت بمحضر السّيد القاضي (قدّس سرّه) حيث وصلت لسماحته رسالة من الشّيخ البهجة، كان فيها -والّتي كنت قد قرأتها بنفسي- كان الشّيخ البهجة يسأل السيد القاضي: إذا كان الشخص قد أصبح في محضر الإمام الحجّة | بخلع الروح ثلاثة أيّام، فما هو حكم صلاته وصيامه؟ فقال السيّد القاضي هذه المسألة مرتبطة بنفسه [أي هذه الحالة تصير لنفس الشّيخ البهجة]» . ويقول آية الله الشّيخ المصباح اليزدي: إنّ المرحوم السّيد مصطفى الخميني ينقل عن والده آية الله السيد الخميني(قدّس سرّه): «إنّ سماحة الشّيخ البهجة يمتلك مقامات معنويّة ممتازة جدّاً!». ومن جملة المطالب الّتي ينقلها السّيد مصطفى الخميني عن والده: «إنّ الشّيخ البهجة يمتلك الموت الاختياريّ، أي عنده هذه القدرة، بأنّه يفصل روحه عن بدنه في الوقت الّذي يشاء ـ وما يصطلح عليه بخلع الروح ـ ويرجعها مرّة أُخرى» . وقصّة أُخرى في هذا السّياق ينقلها آية الله الشّيخ محمد الغروي(قدّس سرّه) صاحب «الأمثال النبويّة» والّذي كان أحد المجتهدين في النّجف الأشرف وكان قد أدرك محضر كبار العلماء مثل آية الله السّيد علي القاضي، وآية الله الشّيخ محمّد جواد الأنصاري الهمداني قدّس الله سرّهما: «في سنة 1360 هـ . ق اتّفق جماعة والّذين كانوا عبارة عن آية الله الشّيخ محمّد آقا الطّهراني (قدّس سرّه)، وآية الله السيّد نصر الله المستنبط (قدّس سرّه) الّذي هو صهر آية الله السّيّد الخوئي(قدّس سرّه)، وآية الله الميرزا علي الهمداني (قدّس سرّه)، وآية الله السيد حسن الشالوي (قدّس سرّه)، وآية الله العظمى البهجة (البالغ مناه)، وكاسب اسمه المشهدي حسن (رحمة الله عليه)، تحرّكنا مشياً من النّجف بقصد زيارة كربلاء، في ذاك الوقت، كنّا كلّنا شباباً، ولم يكن آية الله العظمى الشّيخ البهجة قد تزوّج بعد، أقمنا صلاة المغرب والعشاء في مسجد السّهلة، ومشينا باتجاه كربلاء. عند الفجر وصلنا لمنزل (منطقة المصلى) وأردنا أن نصلّي الصّبح هناك، اقتدينا جميعاً بحضرة آية الله العظمى الشّيخ البهجة، في الصّلاة تلا سماحته سورة القدر، كنت واقفاً في الصفّ الثّاني، للحظة واحدة توجهت أنّ الشّيخ في حالة تجرّد الرّوح، وروحه صارت في الأمام تقرأ سورة القدر وجسم سماحته قد اقتدى بروحه، نحن رأينا هذه القضيّة من سماحته، وقد كان سماحته طول السّفر ساكتاً تماماً ومشغولاً بالذّكر» . وينقل آية الله السّيد أحمد الفهري(قدّس سرّه): «عندما سألت الشّيخ البهجة عن بعض الأمور المستحبّة فقال لي: في نفس هذا الوضع الّذي أنا فيه، بعض الأوقات يصبح لديّ بعض الحالات، بحيث إنّ كفّ النّفس عنها إمّا غير ممكن أو صعب كثيراً، وبعد ذلك أستلقي في الفراش لمدّة يومين أو ثلاثة أيّام ولا أقدر على التحرّك» . ومن الكرامات الّتي تدلّ على صفاء الباطن وسموّ الرّوح لدى سماحته أيضاً ما نقله المرحوم آية الله الحاج الشّيخ عباس القوچاني وصيّ آية الله السيّد القاضي(قدّس سرّه): «إنّ الحاج الشّيخ محمّد تقي البهجة كان يحضر في الفقه والأصول في درس المرحوم آية الله الحاج الشّيخ محمّد حسين الأصفهاني المعروف بالكمباني(قدّس سرّه)، وعندما كان يرجع إلى حجرته في مدرسة المرحوم السّيد وكان بعض الطّلّاب الّذين يبقى لديهم إشكالات في الدّرس يذهبون إلى حجرة سماحته ويرفعون إشكالاتهم. ومادام سماحته في الحجرة نائماً كانوا يسألونه وهو نائم، وسماحته يعطيهم الجواب الكافي والشّافي كما لو كان مستيقظاً، وعندما كان يستيقظ من النّوم ويتحدّثون حول القضايا والأسئلة الّتي تمّ طرحها على سماحته في حالة النّوم لم يكن على اطّلاع أبداً وكان يقول: أصلاً ليس في ذهني، لا شيء في خاطري ممّا تقولون»(56). لا يخفى على اللّبيب ما في هذه القصّة من أُمور عجيبة: الأمر الأوّل: رجوع تلامذة الأُصوليّ الكبير الشّيخ الأصفهاني(قدّس سرّه) للشّيخ البهجة(قدّس سرّه) ممّا يدلّ على مدى علميّته وأفضليّته. الثّاني: وهو أكثر عجباً من الأوّل أنّ سماحته كان يجيب عن الأسئلة وهو نائم، وأيضاً الأسئلة لم تكن بالأسئلة العاديّة بل كانت أسئلة أصوليّة ـ والّتي عادةً ما تكون دقيقة وعميقة وبحاجة لوعي كامل من المجيب ـ ومع ذلك كان يجيبهم وهو نائم. ولم يُنقل مثل هذه الكرامة لغير سماحته إلّا لأستاذه آية الله الشّيخ مرتضى الطالقاني(قدّس سرّه) والّذي كان أيضاً يجيب عن الأسئلة وهو نائم. وهناك قصّة أخرى ينقلها السيّد الفهري نجل آية السيّد أحمد الفهري (قدّس سرّه) والّذي هو صهر آية الله السيّد دستغيب (قدّس سرّه)، أنّه سأل السّيد دستغيب عن إحدى الذّكريات له مع الشّيخ البهجة، فقال لي آية الله سماحة السّيد دستغيب(قدّس سرّه): «إنّ مقامات سماحة الشّيخ البهجة هي أعلى من أن نتكلّم حولها، لكن هناك قصّة حصلت لي مع الشّيخ البهجة أنقلها لكم، أحد الأيّام وبعد درس المرحوم آية الله الشّيخ محمّد كاظم الشّيرازي (قدّس سرّه) الّذي كان من أعاظم فقهاء النّجف وكان مضرباً للمثل في الفقاهة والتّدريس، قال الشّيخ البهجة للشّيخ الشّيرازي: اللّيلة الماضية رأيت مناماً، اسمحوا لي أن أنقله لكم، فقال الأستاذ: المنام هو حول من؟ فقال الشّيخ البهجة: حول السّيد دستغيب. فقال الشّيخ الشّيرازي: تفضّلوا بالبيان. فقال الشّيخ البهجة: رأيت في عالم الرّؤيا أنّ السّيد دستغيب ذهب من النّجف إلى شيراز وكان دخوله إلى شيراز موجباً لتقوية الإسلام والتّشيّع إلى حدّ كبير، بحيث إنّ جميع أهل شيراز قد جاؤوا لاستقبال سماحته مع رايات «لا إله إلا الله» و«محمّد رسول الله» و«عليّ ولي الله»، ولقد وجد السّيد دستغيب تلك الموفقيّة الاستثنائيّة حيث إنّ جميع علماء شيراز قد أتوا واقتدوا في الصّلاة خلفه، بالنهايّة أصبح السيّد دستغيب يضيء للآخرين بحيث يستفيد الجميع من فيض وجوده. في هذا الموضع قال لي آية الله الشّيخ محمد كاظم الشيرازي: يا سيّد دستغيب، أنا أحكم عليك من اليوم بأن تحزم متاعك للسّفر إلى شيراز، ويحرم عليك البقاء في النّجف!! وكان هذا في حال أنّني قد ذهبت للنّجف حتّى أبقى بجوار أمير المؤمنين (عليه السّلام) وما كان لديّ نيّة للخروج من النّجف وكنت قد أوصيت أنّه متى ما رحلت عن الدّنيا أن يدفونني بالنّجف، ولم أفكر بأيّ عنوان أن أرجع إلى شيراز، ولكن لأنّ حكم الحاكم الشّرعي كان نافذاً ولا سبيل لي غير قبول أمر سماحته، ذهبت للعيال وقلت لهم: تجهّزوا لنرجع إلى إيران، عندما أتينا إلى إيران حصل مثل ما كان قد قاله الشّيخ البهجة، يعني دخولنا كان مع استقبال حارّ من النّاس، وعندما وردنا المسجد الجامع لنصلّي صلاة الجماعة، عطلّ جميع أئمّة الجماعة في شيراز جماعتهم وجاؤوا تعظيماً لنا وصلّوا في ذاك المسجد بإمامتنا، على أيّة حال، بقينا في شيراز وأكملنا مسيرتنا التبليغيّة» . ويضيف السّيد الفهري: «نعم! رؤيا الشّيخ كان لها تلك الأهميّة بحيث إنّ المرحوم آية الله الشّيخ محمّد كاظم الشيرازي ذاك الفقيه الجامع للشّرائط، واستناداً إلى رؤيا الشّيخ البهجة قد أصدر حكماً شرعيّاً. وبالنّسبة للسّيد دستغيب أيضاً حصل معه مثل ما رأى الشّيخ البهجة في الرّؤيا، إذ أنّه ويوماً بعد يوم ازدادت عظمته في شيراز والمدن المجاورة» . وكما هو معروف لدى أهل العلم أنّ الرّؤيا ليست من الأمور الّتي يبتني عليها الحكم الشّرعي، ومع ذلك نرى أنّ العالم الكبير آية الله الشّيخ محمّد كاظم الشّيرازي(قدّس سرّه) قد عمل برؤيا آية الله الشّيخ البهجة(قدّس سرّه) بل قد حكم على طبقها، وهذا ينمّ عن مدى أهميّة الشّيخ محمّد تقي البهجة لدى هذا العالم الكبير الذّائع الصّيت وغيره من العلماء الكبار. ومن المواهب النّادرة والكرامات الزّاهرة والّتي تدلّ على ما لسماحته من المقامات الفاخرة والدرجات العالية، والّتي ينقلها الأمين العامّ للعتبة الطّاهرة لحرم السيّد عبد العظيم الحسني (عليه السّلام) في طهران الشّيخ محمّدي الرّيشهري في كتابه زمزم عرفان: «أقمنا مجلس عزاء تأبينيّاً بمناسبة رحيل آية الله البهجة إلى الملأ الأعلى وذلك يوم الأحد 13/3/1388 هـ . ش في الحرم المطهّر للسّيد عبد العظيم الحسني (عليه السّلام)، المتحدّث في ذلك المجلس كان هو الخطيب البارع حجّة الإسلام والمسلمين الشّيخ ابراهيم القرني، حيث نقل في ضمن خطبته في المجلس عن والده المكرّم آية الله الحاج الشّيخ علي القرني إحدى الوقائع الّتي كان هو بنفسه قد شهد هذه الكرامة العجيبة من آية الله البهجة والّتي خلاصتها هي التّالي: في سنة 1349 هـ . ش، كان أوّل الصّباح في قم، وكنت ذاهباً مع والدي لزيارة حرم السّيدة المعصومة سلام الله عليها، وبالقرب من مسجد محمديّة في شارع إرم التقينا بآية الله البهجة، احتفى والدي به كثيراً وأراد أن يقبّل يده، لكن الشّيخ البهجة لم يسمح له، بعد المصافحة والمعانقة، أشار الشّيخ البهجة أنه هل هذا ابنك؟ قال والدي: نعم، هو إبراهيم بن علي بن إبراهيم القرني! فقبّلت أنا يد الشّيخ البهجة ووجهه، فوضع سماحته يده تحت ذقني وقال ثلاث مرّات: كن صالحاً! كن صالحاً! كن صالحاً! ما علمت هل كان كلامه إرشاداً أو دعاءً، حملت كلامه على الدّعاء بأن أكون صالحاً إن شاء الله. بعد أن ابتعد سماحته لخطوات، قال المرحوم والدي: هل عرفته؟ قلت: لا، هل كان بينكما معرفة؟ قال: نعم، إنّه آية الله البهجة، لا ثاني له! بعدها دخلنا حرم السّيدة المعصومة (عليها السّلام)، بعد الجلوس في مسجد (بالاسر)، قلت لوالدي: تصرّفه معكم كان تصرّف المعارف؟ قال والدي: نعم، كنت أحضر في درسه في الكفاية أنا وآية الله السّيد مهدي الرّوحاني في النّجف الأشرف، معرفتنا بسماحته منذ ذاك الزّمن. وتابع والدي قائلاً: كنت قد رأيت منه كرامة، لا أدري هل أنا مجاز بالتّصريح بها أم لا؟ ولكن لأنّ سماحته أظهر لك محبّته يدلّ على اعتنائه بك. سأنقل لك ماجرى حيث إذ لم أنقله لك سآخذه معي إلى القبر، ولكن بشرط أن لا تقوله لأحد ما دُمتُ أنا و آية الله الشيخ البهجة من الأحياء. يتابع الخطيب الشيخ ابراهيم القرني: فمع أنّه كان هناك مناسبات كثيرة هي فرصة لنقل هذه الحادثة الفريدة من نوعها لكن بسبب العهد الّذي عاهدته مع والدي امتنعت عن نقلها حتّى بعد وفاته، لكن بعد سماعي لنبأ رحيل آية الله البهجة، نقلتها لِعيالي، وبعدها في المَهْديَّة في طهران وهذه المرّة الثّالثة الّتي أنقلها، الحادثة الّتي نقلها والدي هي هذه، في الوقت الّذي كنت فيه مشغولاً ًبالدّراسة في النّجف جاء والدي الآخوند ملّا إبراهيم إلى النّجف الأشرف لأجل الزّيارة بقي في النّجف عدّة أيّام، بعدها ذهبنا إلى كربلاء معاً، إحدى الليالي كنت مشغولاً بالزّيارة في حرم الإمام الحسين (عليه السّلام)، وفجأة تذكّرت أنّي كنت قد عاهدتّ أن أذهب إلى مسجد السّهلة أربعين ليلة أربعاء، ولحدّ ذاك الوقت كنت قد ذهبت اثنتين وثلاثين ليلة، فتأثّرت لِمَ لم أنتبه منذ الصّباح إلى هذا الموضوع حتّى أوفي بعهدي، والآن يتوجّب عليّ أن أعيد هذا البرنامج من البداية. كنت أفكّر بهذا فرأيت آية الله الشّيخ البهجة جالساً عند رأس ضريح الإمام الحسين (عليه السّلام)، مشغولاً بالزّيارة والعبادة. توجّهت نحوه وسلّمت. فقال لي: أيُها الشّيخ القرني ماذا بك؟ بالك مشغول؟ تريد أن تذهب إلى مسجد السّهلة؟ لم أتوجّه أنّ سماحته من أين عرف أنّي أفكّر بمسجد السّهلة، قلت: نعم، وأوضحت له موضوع عهدي مع نفسي، فقال: اذهب وأوصل والدك للمدرسة وتعال، أنا أنتظرك هنا! كان والدي في الحرم أوصلته إلى المدرسة. هيّأت العشاء وقلت لوالدي: أنت تناول العشاء واسترح، لأن أستاذي لديه عمل معي! رجعت مجدّداً لحرم الإمام الحسين (عليه السّلام)، ووصلت لمحضر الشّيخ البهجة، فقال سماحته: تريد أن تذهب إلى مسجد السّهلة؟ قلت: نعم، أحبّ ذلك كثيراً! فقال: قم وتعال معي! وأخذ يدي بيده، وخرجنا معاً من حرم الإمام الحسين (عليه السّلام)، وخرجنا من المدينة، فجأة رأينا أنفسنا خلف أسوار النّجف الأشرف، ودخلنا إلى مسجد السّهلة، وصلّيت صلاة تحيّة المسجد وصلاة الإمام صاحب الزّمان (عج) بمعيّة سماحته المكرّم. بعد ذلك قال آية الله البهجة: تريد أن تبقى في النّجف أو أن ترجع إلى كربلاء؟ قلت: والدي في كربلاء وتركته في المدرسة، يجب أن أرجع إلى كربلاء! فقال: لا مانع! وأخذ يدي مجدّداً، كانت يدي في يد ذاك الرّجل العظيم حتّى رأيت نفسي عند رأس الإمام الحسين (عليه السّلام)، في نهاية هذه القضيّة يقول آية الله البهجة: لست راضياً بأن تبوح لأحد بما جرى ما دمتُ حيّاً!!» . أجل لقد نال درجات عالية، وبلغ مقامات سامية، وحاز قصب السّبق في العبوديّة حتّى منحه الله حلية أوليائه وتاج أحبائه وما ذلك على الله بعزيز، وليس بمستغرب أن يقول أستاذه العارف الكبير آية الله السّيد علي القاضي(قدّس سرّه) في حقّه: «لقد أبدى الشّيخ محمّد تقي الجيلاني ترقّيات منقطعة النّظير» . ولم يكن المقصود في هذا المختصر ذكر جميع الكرامات المشهودة لسماحته وإنّما هو غيض من فيض، كي يكون تنبيهاً للعباد وترغيباً لمن أراد السّداد. فعلى الرغم من نيله المرتبة العالية في البحث والدّرس، فإنّ ذلك لم يَحُل بينه وبين نيله المقامات السّامية في تهذيب النّفس، وعلى الرّغم من امتلاكه حالات معنويّة مميّزة ومكاشفات غيبيّة إلهيّة وكرامات بهيّة جليّة، وبلوغه أقصى درجة في المراقبة وأعلى مرتبة في الصّمت ولكن لم يكن ليمنعه ذلك عن إرشاد من يرى فيهم القابليّة ولم يكن ليبخل بنصح الآخرين بل كان حريصاً على ذلك لمن يرى أنّهم أهل لذلك. وينقل آية الله السّيد عبد الكريم الكشميري (قدّس سرّه): «كنت جالساً في أحد الأيّام مع أصدقائي في حرم أمير المؤمنين (عليه السّلام) وبسبب تعبنا كنا نتبادل أطراف الحديث، وفجأة دخل آية الله العظمى الشّيخ البهجة وانتظر حتّى ابتعدت عنهم، وبعد أن ابتعدت عنهم لمسافة قصيرة اقترب منّي وهمس في أذني كلمة واحدة وهي «ما للّعبِ خُلِقنَا!» فأشعل كلامُه تلك النّار في كياني، حيث صرت بعدها متحيّراً وتائهاً، وإثر الانقلاب الّذي سبّبه كلامُه في نفسي صرت أبحث عن الحقيقة، وفي اليوم التّالي ذهبت إلى حجرته وطلبت منه الحلّ، فبيّن سماحته لي مطالِبَ ومن بعدها وُفِّقتُ للحضور في مجلس السّيد القاضي الملآن بالفيوضات» . كما ذُكر سابقاً أنّ سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه) كان يحضر مُدَّةً تقريرات درس أستاذه آية الله الشّيخ محمّد حسين الأصفهاني(قدّس سرّه) لدى آية الله السّيد الخوئي (قدّس سرّه) والّذي كان أسبق من آية الله الشّيخ البهجة(قدّس سرّه) في الحضور عند أستاذهما، حيث ينقل آية الله الشّيخ جواد الكربلائي: «في أحد الأيّام كان كلام السّيد الخوئي(قدّس سرّه) حول استعمال اللّفظ في أكثر من معنى فقال السّيد الخوئي: هذا الاستعمال الّذي يستلزم لحاظين، آليّاً واستقلاليّاً ، والجمع بين هذين اللّحاظين في استعمال واحد محال!. فقال له الشّيخ البهجة والّذي كان وقتها في مقتبل العمر: يمكن للنّفس الإنسانيّة أن تصل إلى مرتبة من القوّة الّتي تتمكّن من جمع هذين اللّحاظين . وقد طرح الشّيخ البهجة هذا المطلب لِلَفْتِ نظر السّيد الخوئي بلزوم تحصيل المعارف الإلهيّة والاتصاف بصفات أولياء الله، وأنّ هناك معارف غير الفقه والأُصول يجب على المرء تحصيلها. هنا قال السيّد الخوئي: كان ما أورَدتَهُ إشكالاً مهماً! ثم طلب من الشّيخ البهجة بيان سبب طرح هذا المطلب، وبعد أن وضّح الشّيخ البهجة أموراً للسّيد الخوئي سأله: إلى من وإلى أين نرجع؟ فذكر له الشّيخ البهجة اسم آية الله السّيد علي القاضي(قدّس سرّه). لكن السّيد الخوئي في أوّل الأمر كان يظهر التّرديد والمخالفة، ولكن لأنّه كان يرى أنّ عدم الذّهاب إلى السّيد القاضي موافق لهوى النّفس، وبعد عدّة مراسلات شفهيّة مع السّيد القاضي بواسطة الشّيخ البهجة، وليخالف هوى نفسه قرّر الذّهاب إلى السيّد القاضي. وبعدها وبواسطة الشّيخ البهجة عُقدت جلسة بين آية الله السّيد علي القاضي وآية الله السّيد أبي القاسم الخوئي (قدّس سرّهما) لمدّة ساعة ونصف في صحن حرم قمر بني هاشم أبي الفضل العبّاس (عليه السّلام). وبعدها أخذ بعض التّوصيات من السّيد القاضي وصار يعمل على وفقها، أول مرّة لم يتوفّق للعمل بالتّوصية، فراجع السّيد القاضي مرّة أخرى، فكان من توصيات السيّد القاضي له أن يقرأ سورة القدر ألف مرّة في ليالي شهر رمضان. في إحدى الليالي يحصل له مشاهدة ويرى فيها أنّه وصل إلى مقام المرجعيّة، ويرى جميع تفاصيل حياته إلى حين وفاته، حتّى إنّه قد رأى أنّه يتمّ نعيه من مأذنة حرم أمير المؤمنين (عليه السّلام) » . وهكذا بدأ السّيد الخوئي مسيرته في السّير مع الشّيخ البهجة واستمرت هذه المسيرة الّتي نتج عنها علاقة حميمة لم تنفكّ أواصرها حتّى آخر حياة السّيد الخوئي(قدّس سرّه) . وينقل نجل آية الله السّيد جمال الگلپايگاني أنّه سأل آية الله الشّيخ عبّاس القوچانيّ عن الشّيخ البهجة فأجابه: «هل تعلم لِمَ لَم يكن الشّيخ يرتقي سلّم العروج درجة درجة، بل كان يحلّق فيه طائراً؟ لأنّه كان سالكاً قبل بلوغه وعيناه كانتا مفتوحتين، ورأى المعصية ولم يرتكبها، وبعد بلوغه أيضا لم يقترف المعصية». نعم فقد كان مواظباً على طهارته وتنزّهه عن المعصية قبل البلوغ وبقي محافظاً على ذلك إلى آخر لحظة من حياته. ويقول آية الله السّيد أحمد الفهري (قدّس سرّه) في مَعْرِضِ جوابه لما سُئِل عن الخصائص الأخلاقيّة والعرفانيّة للشّيخ البهجة(قدّس سرّه) من قبيل التّقوى والزّهد وبساطة العيش والعبادة والتّواضع والتّوسل والنّظم وكثرة ذكره وكتمانه لمقاماته حيث قال: «بشكل مختصر، يمكن القول أنّ سماحته كان متميّزاً ومشرقاً في كلّ الموارد الّتي ذكرت في السّؤال، حتّى سمعت من المرحوم آية الله الشّيخ عبّاس القوچاني يقول: أنا احتمل أنّ الشّيخ البهجة لم يكن يرتكب المعصية أبداً، لأن سماحته عندما دخل إلى حوزة المرحوم القاضي كان لا يزال مراهقاً ولم يكن قد بلغ سنّ التّكليف، بعد هذا أيضاً كان مبرّأً من كلّ نقص ومعصية بواسطة نيل مراتب العرفان وإدراك عظمة الله وحضوره. [و يضيف السيّد الفهري (قدّس سرّه):] ويُفهم هذا الموضوع أي عدم ارتكاب سماحته لأيّ نوع من أنواع المعصية، من خلال مواعظ ونصائح سماحته، لأنّ سماحته كان يتّكئ على ترك المعصية كثيراً، وكان اعتقاده أنّ الشّرط الأوّل لأيّ نوع للسّير إلى الله هو ترك المعصية، وكان سماحته يرى ترك المعصية هو مبدأ لجميع الترقّيات الروحيّة» . وأيضاً ينقل الشّيخ محمود القوچاني نجل آية الله الشّيخ عبّاس القوچاني(قدّس سرّه): «قال لي آية الله السّيد أحمد الفهري: إنّ سماحة الشّيخ البهجة هو في مقام العصمة العمليّة، لأنّ سماحته منذ سنّ البلوغ، أدرك محضر آية الله السّيد القاضي (قدّس سرّه)، وهكذا شخص يتطهّر قطعاً، وبشكل عمليّ لا يصدر منه معصية». وهاتان الشّهادتان هما مِنْ عَلَمَيْن من أعلام الدّين بعدم ارتكاب سماحته للمعصية منذ عنفوان شبابه وحفاظه على طهارته وفطرته وبراءته من أنواع الذّنوب. وهكذا كانت الفترة الّتي أقام بها الشّيخ محمّد تقي في النّجف الأشرف فرصة ذهبية لرقيّه العلميّ وتهذيب نفسه وترويضها، إلّا أنّ شدّة جدّيته في طلب العلم وهمّته ومثابرته في تهذيب النّفس كانت تؤدي به إلى أن يتعرض باستمرار لوعكات صحيّة حادّة، حيث كانت تأخذ مأخذاً من جسمه الّنحيف وتضطرُّه خلال فترة العلاج في كلّ مرّة للسّفر إلى سامرّاء والكاظميّة وكربلاء المقدّسة لتغيير الجوّ حتّى إذا ما تماثل للشّفاء عاد إلى النّجف الأشرف مرّة أُخرى، وأيضاً كان يسافر إلى هذه العتبات المقدّسة خلال أيّام العطل، فليلة الجمعة كان مواظباً فيها على الذّهاب إلى كربلاء لزيارة حرم سيّد الشّهداء (عليه السّلام). وأمّا في العطلة الصّيفيّة فلم يكن سماحته ليترك البحث والتّدريس حيث ينقل السّيد المرعشي الأهوازي: «لقد درست العلوم العقليّة لدى سماحته في الكاظمين». وأخيرا وبعد ستة عشر عاماً مرّت بجوار روضتي أميرالمؤمنين وسيّد الشّهداء (عليهما السّلام) ملؤها العمل الدّؤوب والجهد الّذي لا يعرف الكلل والملل في طريق طلب العلم والمعرفة والتّتلمذ على يد الطّراز الأوّل وأساطين العلم في الحوزة العلميّة في النّجف الاشرف وبعد سنين من التّدريس والتّحقيق يعزم سماحته على الرّجوع إلى مسقط رأسه بصدر يفيض علماً وقلب موّاج بالمعرفة ولكي يعالج مرضه الشّديد الّذي ألمّ به من كثرة العبادة وبذل الجهد. وكانت عودته في شوّال سَنَة 1364 للهجرة النبوية المشرفة على مهاجرها وآله آلاف التحيّة والثّناء. عن الإمام الصادق (عليه السّلام) أنه قال: «ستخلو كوفة من المؤمنين ويأزر عنها العلم كما تأزر الحيّة في جحرها، ثمّ يظهر العلم ببلدة يقال لها قم، وتصير معدنا للعلم والفضل» .
وبعد مدّة قصيرةٍ انقضت بلقاء الأسرة والأقارب والمحبّين استجاب العائد المجتهد لطلب أخته الكبيرة الّتي قامت مقام أُمه بتحقيق رغبتها في تزويجه، مضت شهورٌ قضاها الشّيخ محمّد تقي في فومن حتّى إذا انقضى شهر رمضان جدَّ عزمه للرّجوع إلى النّجف الأشرف، فذهب إلى مدينة قم المقدّسة حيث أقام فيها كي يتشرف بزيارة كريمة أهل البيت السّيدة فاطمة المعصومةBو يطَّلع على شؤون حوزتها العلميّة ثم ينطلق بعد ذلك إلى النّجف الأشرف.
كان دخول آية الله الشّيخ البهجة إلى مدينة قم المقدّسة في شوّال عام 1365 هـ . ق ولم تمضِ على إقامته عدّة شهور حتّى توفّيَ والدُه الرّؤوف في صفر 1365 هـ . ق ورقد في مضجعه بعد أن اطمأنّ على مستقبل ولده العزيز محمّد تقي. وهكذا فإن الإقامة في قم كانت مصحوبةً بحوادث مؤسفة حيث توالت الأخبار بوفاة آية الله السّيد أبوالحسن الأصفهانيّ في ذي الحجّة من عام 1365 هـ . ق وبعدها بمدّة قصيرة وبالتّحديد في شهر ربيع الأول 1366 هـ . ق رحل آية الله الميرزا السّيد علي القاضي (قدّس سرّه) إلى جوار ربّه، وكان قبل ذلك قد توفِّيَ كلٌ من آية الله آقا ضياء الدِّين العراقيّ والشّيخ محمّد حسين الأصفهاني الغروي (قدّس سرّهما) أيام إقامته بالنّجف الأشرف. ولم تشأ الأقدار أن يغادر عشَّ آلِ محمّد إلى العراق بسبب بعض الظّروف الخاصّة، وممّا زاد في عزمه على الإقامة في جوار حرم كريمة أهل البيت (عليهم السّلام) ومزاولة النّشاط العلميّ في حوزتها العلميّة هو وفاة أساتذته من كبار العلماء، وممّا يجدر بالذِّكر أنَّ الحوزة العلميّة في قم المقدّسة حينها لم يكن قد مضى على تجديدها سوى ربع قرن على يد آية الله الشّيخ عبد الكريم الحائري(قدّس سرّه)، فكانت النّتيجة أن توارد رهطٌ من العلماء والمجتهدين البارزين عليها، فزاد حضور الشّيخ البهجة فيها آثاراً علميّة مشهودة، وعلى الرّغم من إحرازه لمرتبة الاجتهاد لكنّه حرص على أداء الإحترام تجاه أساتذة الحوزة العلمية في قم المقدّسة، فبدأ نشاطه فيها بحضور درس الخارج لآية الله السيّد محمد الحجّت الكوهكمري(قدّس سرّه) ، ودرس آية الله السّيد حسين البروجردي (قدّس سرّه)، وأصبح من الّذين يكوّنون عصبةً اعتُبِرت من أبرز الشّخصيّات الّتي كانت تحضر درس السيّد البروجردي، الّذي غطّت مرجعيّته الآفاق. أما لماذا حضر الشّيخ البهجة في درس السيّد البروجردي ـ على رغم اجتهاده المطلق والتّام ومكانته العلميّة المرموقة، والّتي يشهد له بها جميع أساتذته ومن حضر درس سماحته ـ فهناك سببان: الأوّل: أنّ سماحة الشّيخ البهجة كان يقول: أنّه يجب على الطّالب إمّا أن يشتغل بالتّحصيل أو التّدريس، وحيث إنّ سماحته لم يكن لدى قدومه إلى قم مشهوراً فقرّر أن يحضر درس العلماء الموجودين في قم المقدّسة. والسّبب الثّاني: هو أنّ السّيد البروجردي طلب من الشّيخ البهجة عدّة أمور ومسؤوليّات، منها أن يكون الشّيخ البهجة من المقرّبين لدى السّيد البروجردي وخواصّه، وأن يكون من أعضاء لجنة الاستفتاءات الّتي تتألف من خواصّ العلماء، وكذلك أن يكون من ضمن اللّجنة الّتي تمتحن المجتهدين لإعطائهم إجازة الاجتهاد حسب رأي السيّد البروجردي، فما كان من الشّيخ البهجة إلّا أن رفض جميع هذه الأمور لأسبابه وشؤونه الخاصّة، فسمع سماحة الشّيخ البهجة بعدها من بعض المقرّبين من السّيد البروجرديّ أنّه قال: لا تظنّوا أنّنا مقصّرون مع الشّيخ البهجة، نحن أصررنا عليه ولكنّه لا يحضر لدينا، هو يهرب منّا، نحن نطلب منه لكنّه يرفض. وعندما علم الشّيخ البهجة أنّ السيّد البروجرديّ غير مرتاحٍ فقرّر أن يطيّب خاطر السيّد البروجرديّ، وذلك بحضور بحثه الخارج، وبقي على ذلك إلى آخر حياة السيّد البروجرديّ. وبرز الشّيخ البهجة فور وصوله كأحد أبرز الفضلاء المعروفين بطرح الإشكالات العلميّة في درس السيّد البروجرديّ. وفي هذا السّياق ينقل آية الله الحاج الشّيخ مرتضى الحائريّ (قدّس سرّه) : «إنّ سماحة آية الله العظمى البهجة في نفس السّنة الأولى لحضوره في درس آية الله العظمى البروجرديّ(قدّس سرّه) سنة 1324 هـ. ش كان يظهر النّكات الدّقيقة والإشكالات المهمّة، ممّا جعل نظر الأُستاذ يتوجّه إليه باهتمامٍ فائق، بحيث خرج مجلس الدّرس عن حالته لعدّة أيّام، وكانت هذه الإشكالات والإجابات مفيدةً لنا جدّاً. فجأةً تغيّب سماحة آية الله العظمى البهجة عن الحضور في الدّرس، فصار آية الله العظمى البروجرديّ(قدّس سرّه) يستفسر عنه، ولكن لم يكن خبره عند أحد، إلى أن أتى سماحته بعد عدّة أيّام إلى الدّرس مشاركاً فيه وهو ساكت لا يتكلّم، ولم يكن يسأل ويجيب. ذهبنا إليه وطلبنا منه أن يتابع أسئلته وأجوبته، ولكنّه لم يقبل، فَدارَ في أذهانِنا أنّه لربّما قد أذّاه أحد، ولكن عرفنا أنّ سماحته ترك ذلك للتحرّز من الشّهرة، حيث كان قد أصبح مشهوراً بين الخواصّ والعوامّ» . إلى جانب ذلك كانت لشيخنا الرّاحل نشاطات عدّة منها: بدأ بعد دخوله مدينة قم المقدّسة مباشرة بالتّدريس وبعد مضيّ سنة على ذلك، شرع بتدريس خارج الفقه والأصول، واستمرّت دروسه هذه لأكثر من ستّين عاماً حتّى وافاه الأجل، ففي الصّباح كان يلقي محاضراته بتدريس خارج الفقه، وفي المساء يلقي درس خارج الأصول. أجل فقد كان دأب سماحته الاعتذار من الدّخول في ما يوجب الشّهرة وما شابه ذلك، ولكنّه(قدّس سرّه) كان يلبّي الدّعوة في المسائل الضّروريّة الّتي تستدعي تدخّل أمثال سماحته، وهناك قضيّة تدلّ على ذلك حيث إنّه وفي أحد الأيّام طلبوا من سماحته الدّخول إلى القسم الدّاخلي من بيت السيّد البروجرديّ، وكان هناك من الأعلام العظام كآية الله الشّيخ الزّاهديّ القمّي (قدّس سرّه)، وآية الله السيّد الخميني (قدّس سرّه)، وآية الله الشّيخ كمالوَند (قدّس سرّه)، وكان أصغرهم سنّاً هو سماحة الشّيخ البهجة، وكان هناك قضيّة تتعلّق بشخصٍ ادّعى النّبوة ومسائل مهمّة أخرى، فطلب السيّد البروجردي من الحضور أراءهم حول مدَّعي النّبوة، فاتّفق الجميع على الحكم بأنّه مجنون، وتمّ الأمر، فرأى سماحة الشّيخ أنّه ليس من المصلحة إصدار حكم الجنون، فقال سماحة الشّيخ البهجة لآية الله الشّيخ روح الله كمالوَند، والّذي كان جالساً بجواره: «بالأصل هل من الصّلاح أن يكتب سماحته [السيّد البروجردي] شيئاً؟! هل من الصّلاح أن تكتب الحوزة شيئاً؟! هل الدّخول في هذه المسائل هو بصالح الحوزة؟!» فتكلّم الشّيخ كمالوند بما قاله له سماحة الشّيخ البهجة بصوت مرتفع، في مقابل آراء جميع أولئك العظام ـ الّذين أكّدوا الرّأي السابق ـ في تلك الجلسة لم يتّخذ آية الله السيّد البروجردي قراراً نهائيّاً، ولكن عندما التقى سماحة الشّيخ بابن السيّد البروجردي سأله سماحة الشّيخ: ماذا حصل يومها؟ فقال له: إنّ السيّد البروجردي استحسن فيما بعد رأيكم في هذه المسألة، ورأى أنّه من الأصلح أن لا يتدخّل في هكذا أمور! إن من أبرز علائم شخصيّة آية الله الشيخ البهجة هو السّعي لكي يبقى مجهولاً ولا يكون مشهوراً مطلقاً، فتراه يجهد ويصرّ أن لا يوضع له اسم أو ذِكر في أي مكانٍ، وخير دليل على ذلك أنّه امتنع من توجيه الإشكالات وإيراد النّقد خلال الدّروس الّتي كان يحضرها عند كبار الفقهاء في قم المقدّسة؛ لأنّه رأى أنّ هذه الآراء والإشكالات الّتي يوردها تثير انتباه الآخرين نحوه وتوجِّهُ الأنظار إليه، ممّا يؤدي إلى ذياع صيته وهذا ما كان يفرّ منه سماحته. وكثيراً ما كان العلماء يحضّون الطّلبة على الحضور في درس سماحته. ومن جملتهم آية الله السيّد الخميني(قدّس سرّه) الّذي كان يوصي نجله السيّد أحمد بذلك، وكذلك بعض الشّخصيّات العلميّة أمثال الشّهيد الشّيخ المطهّري(قدّس سرّه) حيث ينقل آية الله الشّيخ محمد حسن الفقيه اليزدي: «لقد كان آية الله المطهّري عند الحديث حول درس آية الله البهجة يوصي كثيراً ويقول: يجب أن تشاركوا في درس سماحته، خصوصاً درس الأُصول» . وينقل الأستاذ خسروشاهي أنّ آية الله الشّيخ مرتضى الحائري (قدّس سرّه) كان يقول: «سأعطيكم ضابطةً، وهي أن تشاركوا في درس الشّخص الّذي لا ينقل الأقوال فقط، وإنّما يحقّق الأقوال، ويبيّن في درسه نكاتاً، الأمر الّذي هو مفيدٌ جدّاً في الإيصال إلى فعليّة ملكة الاجتهاد، مثل هذا الدّرس مفيد لكم بحيث يُخرِج ملكة الاجتهاد من القوّة إلى الفعل، ولا يكتفي بنقل الأقوال، ثم يقول الأستاذ خسروشاهي: لقد ذكرت لآية الله الحائري درس الشّيخ البهجة فقال: إنّ درس سماحته يمتلك نفس القاعدة والضّابطة الّتي قلت لكم من حيث الدّقة والمضمون، من الجيّد أن تشاركوا في درس سماحته، درس سماحته بنّاء من كافّة النّواحي، من النّاحيّة العلميّة ومن النّاحيّة الأخلاقيّة، استمرّوا في الحضور في هذا الدّرس» . وحتّى في فترة تدريسه فيما بعد حرص على أن يلقي دروسه في مكان غير معروف، بل ولم يبذل أدنى جهد للتّعريف أنّه قد شرع في التّدريس. ومن جملة ممارساته وسلوكيّاته الّتي كان بواسطتها يحاول أن يبقى مجهول القدر والشّأن وبعيداً عن الصّيت والشّهرة، هو حضوره دروس آية الله الحجّت الكوهكمري وآية الله البروجردي، رغم اجتهاده المسلَّم به، وعلى الرغم من قدرته على تدريس البحث الخارج وهروبه من الشّهرة، كان يحضر لدى سماحته الخواصّ من الأفاضل، والّذين أصبح بعضهم لاحقاً من مراجع الدّين أو من كبار العلماء. وفي هذا المضمار ينقل الفيلسوف الكبير جلال الآشتياني(قدّس سرّه): «لقد سمعنا قبل خمسين عاماً أنّ سماحة آية الله العظمى البهجة قد بدأ في تدريس البحث الخارج، عندما سمعنا بذلك سررنا كثيراً، حيث إنّنا تمكنّا من سماع النّظريات العميقة والّدقيقة لآية الله العظمى الغروي الاصفهاني الكمباني(قدّس سرّه) من لسان تلميذه، لأنّ الحوزة كانت تحتاج لشخص من هذا القبيل، بحيث يقرّر آراء ونظريّات الشّيخ الغروي ويظهرها بشكل واضح، لأنّ الكثيرين كانوا يُشْكِلونَ على الحاجّ الشّيخ [الأصفهاني]، إذ أنّهم لم يكونوا قد عرفوا أصل المطلب. لهذا حضرنا درسه مع عدد آخر من الفضلاء، ولكن بعد شهرين من الحضور في الدّرس، رأينا أنّ سماحته وهو في هذه السنّ غير الكبيرة، ليس فقط أنّه لا يقرّر مباني المرحوم الأستاذ الغروي الأصفهاني(قدّس سرّه)، وإنّما لديه مطالب توازي تلك بنفس العمق والوزن. كان سماحته بداية يدخل في أصل المطلب ويشير إلى آراء أُستاذه إشارة، وكان يبدأ بالتّحقيق والتّدقيق، في حين أنّنا وقتها لم نكن قد فهمنا مقصد المرحوم الأستاذ، كان سماحته لديه مطالب من نفسه بهذه الدّقة والعمق، لذلك أصبح لدينا مشكلتان [أي] عدم فهم مطالب المرحوم الكمباني(قدّس سرّه)، وأيضاً آراء سماحته ، بالنّهاية أجبرنا على ترك ذاك الدّرس» . وينقل آية الله الشّبيري الزّنجاني أحد المراجع في مدينة قم المقدّسة: «كنت قد شاركت لفترة قصيرة في درس سماحته أنا والسيّد مهدي الرّوحاني، كان سماحته في الدّرس دقيق النّظر جداً ... بعد الدّرس كلّما كنت أريد أن أرتّب له حذاءه كان لا يسمح لي بذلك» . فكانت دروسه ذات فوائد جمّة ودقائق وظرائف علميّة استثنائيّة متميّزة، وفي ذلك يقول آية الله الشّيخ مصباح اليزدي: «الفوائد الّتي كنّا نجنيها في درس سماحة الشّيخ كانت أكثر من الدّروس الأُخري . إنّ آية الله سماحة الشّيخ البهجة هو جامع تدقيقات المرحوم الشّيخ محمّد تقي الشّيرازي (قدّس سرّه) (عن طريق أبرز تلامذته الشّيخ محمّد كاظم) وكذلك جامع ابتكارات المرحوم النّائيني (قدّس سرّه) والمرحوم الشّيخ محمّد حسين الإصفهاني (قدّس سرّه)، وجامع تربية المرحوم السيّد علي القاضي (قدّس سرّه). هذه الشخصيّات العظيمة كانت سبباً في تشكيل شخصيّة هذا الإنسان العظيم الّذي جمع الكثير من الخصال العظيمة من هؤلاء الأساتذة، وهذا الإنسان هو نعمة عظيمة علينا في هذا العصر وفرصة ثمينة للنّاس، لكي يستفيدوا من جميع لحظات عمره الشّريف» . وينقل آية الله الشّيخ محمّد حسن أحمدي الفقيه اليزدي: «كان سماحته يعطي درسه بشكل مضغوط جداً، فدرس سماحته له حكم خارج الخارج، أقصد هذا، أنّه كان لديه مباني العلماء العظام كالميرزا النّائيني، والشّيخ محمّد حسين، والآقا ضياء، حيث كان يشير إشارة قصيرة لمبانيهم، ثمّ يقرّر ويرسّخ مبانيه». وينقل آية الله الشّيخ محمّد حسين أحمدي الفقيه اليزدي: «إذا أردنا أن نتوجّه مع العناية الخاصّة إلى الجنبة العلميّة لسماحته، الخصائص الّتي هي موجودة في درس سماحته والّتي تنشأ من ناحية فكر سماحته، وتبيّن هذه المسألة بشكل جيّد، لأنّ سماحته يعنون كلّ مسألة أو فرع فقهيّ بعد الالتفات إلى الأشياء الدّقيقة في الآية والرّواية الّتي لها دلالة على هذا البحث، يقايس بين ذاك البحث وبقيّة الأبحاث المشابهة، وبعد التّدقيق العقليّ والفكريّ الخاصّ في التّعادل بين المباحث، إنصافاً كان سماحته يصل لنتيجة علميّة جديدة بفراسة وتفكّر واجتهاد خاصّ. وبالأساس فإنّ اعتقادنا نحن الشّيعة هو أنّ كلّ مجتهد يمتلك حذاقة وفطانة، ويدقّق في معاني ومطالب الرّوايات، بالحدّ والعظمة الّتي نعلمها الأقرب للأئمّة (عليهم السّلام). وبالفعل كنّا نرى أنّ سماحته يجزّئ المباحث ويحلّلها بنظره وفكره الخاصّ، الاجتهاد الصّحيح في الواقع هو هذا، حيث إنّ المجتهد بعد أن يلاحظ شأن نزول الآيات وشأن صدور الرّوايات والأحاديث، وبأفق عالٍ يدقّق تلك الدّقّة، كأنّه يلمسه ويضع نفسه في متن الحادثة الّتي يبحثها، يقايس زمان نزول الآيات وصدور الأحاديث مع الزّمان، بعدها يرى ما هو المراد الإلهيّ واقعاً، وكذا رضا الله سبحانه في هذا المورد مع الالتفات إلى مجموع أوامر الشّرع الإسلاميّ. وهذا مبنى مهمّ للاجتهاد، ونحن قد شاهدنا ذلك بوضوح في أبحاث سماحته، وأنا أعتقد أنّه إذا لم يصل المجتهد إلى هذا المقام، لا يستطيع أن يفتي ويبيّن نظره، بل إنّ المجتهد وفوق امتلاكه للعدالة والاجتهاد، يجب أن يحوز هذه الملكة، بنحوٍ يستطيع أن يمتلك رؤية دقيقة ونظراً عميقاً معنويّاً إلى مجموع أحكام الإسلام ونظريّاته، وأن يتمكّن من بيان فتواه ونظره في مورد البحث، وفي نظري هذه الحالة موجودة في الشّخصيّات الّتي تربّت على أيدي الأئمّة (عليهم السّلام). وهذه الخصوصيّة ظاهرة بوضوح في شخصيّة الشّيخ البهجة الجذّابة، فكلّ شخص يشارك في درس سماحته لفترة ويتعرّف على سماحته من قرب، يرى ذلك من استنباطات واجتهادات سماحته. والنّظر الاجتهاديّ العالي يتطلّب رؤية ما وراء الأحاديث والرّوايات، وأن يرى مبنى الإسلام الأساسي والحركة التّربويّة لأحكام الإسلام، وهذه الرّؤية هي فوق ملكة الاجتهاد والعدالة و.... ونحن كنّا قد رأينا هذه الميزة خصوصاً في شخصيّة سماحة الشّيخ البهجة» . ويضيف آية الله الشّيخ محمّد حسين أحمدي الفقيه اليزدي: «هذه خصوصيّة عظيمة قد رأيناها في شخصيّة الشّيخ البهجة، حيث كان يمتلك تلك الملَكَة الكاملة والعالية، وكان يتمكّن بنظر سامٍ وأفقٍ عالٍ أن يعي آثار الوحي ويظهر اجتهاده العميق» . ويقول آية الله الأمجد: «إنّ درس الشّيخ البهجة مفيد للمجتهدين الّذين حصلوا على الاجتهاد من دروس سابقة، والآن يريدون الحصول على الفوائد الجمّة الّتي تخصّ المجتهد». نعم، فلقد كان سماحته نبراساً في العلم والفهم لكلام المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولكن لم يكن درس سماحته مقتصراً على الفقه والأُصول، وإنّما كان يتضمّن في طيّاته ذكر معارف جمّة ومطالب مهمّة، لا غنى عنها بل كان يدرأ عن أذهان الآخرين الشّبهات بواسطة فطانته وكياسته. وفي هذا ينقل آية الله الشّيخ مصباح اليزدي: «كما ذكرنا سابقاً أنّه من صفات سماحته أنّه عندما كنّا نحضر درسه كان قبل شروع الدّرس يروي حديثاً أو ينقل قصّة تاريخيّة، وكان في بعض الأحيان موضع تعجّبٍ لدينا، وذلك عندما كان يؤكّدُ ويُصرّ على مطالب بديهيّة ومعلومة، ومن جملة هذه المطالب مسألة إمامة أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقد كنّا نستغرب من تأكيده على هذا المطلب، لأنّه لا شكّ ولا شبهة لدينا في هذا الموضوع ولا داعي لأن يذكر ويكرّر لنا أدلّة إمامة أمير المؤمنين (عليه السّلام)، على كلّ حال كنّا نتساءل أنّه لماذا يطرح سماحته علينا هذا الموضوع بدل أن يذكر لنا الأمور الأخلاقيّة والمعنويّة الّتي نحن بحاجة إليها أكثر، لكن بعدما وصلنا إلى سنّ الخمسين والستّين رأينا في كثيرٍ من الموارد أنّ هذه المباحث الّتي كان يطرحها علينا سماحة الشّيخ قبل أربعين سنة حول موضوع إمامة أمير المؤمنين (عليه السّلام) إنّنا بحاجة إليها، لقد كان سماحة الشّيخ يعلم بأنّ هذه الأمور ستصبح موضع شكٍّ وغفلةٍ في هذه الأيّام، وأنّنا سنحتاج إلى تلك الملاحظات والنّصائح في ذلك الباب، لهذا كان يهيِّئنا منذ ذلك الزّمن لمثل هذه الأيّام، وربّما لولا توصياته هذه لم نكن لنفكّر أصلاً في أن نبحث ونطالع في هذه المسائل» . فقد كانت هذه الاستدلالات والنّتاجات على درجة من الدّقة والعمق، بحيث إنّ آية الله الشّيخ مصباح اليزدي يقول: «لقد استعملت هذه النّتاجات في كتاباتي حول المسائل العقائديّة وغيرها» . ينقل آية الله الشّيخ الگرامي: «و أنا أكّدت مراراً على الطّلاب فيما سبق، وحتّى قبل أن يشتهر سماحة الشّيخ في المرجعيّة، أن يستفيدوا من سماحته. هذه الأمور أشبَه بالتّاريخ المتحرّك وتزول مع مرور الوقت، ويجب أن يكون هناك محفوظاتٌ كثيرة لسماحة الشّيخ وعلينا أن نستفيد منها. لساننا عاجزٌ عن بيان الدّرجات الحقيقيّة لهذا الشّيخ العظيم، حقيقته ومعنويّته تُدرَكُ ولا توصف!» . وينقل أيضاً آية الله الشّيخ المصباح اليزدي: «عادةً كنّا نحضر إلى درس سماحته قبل الموعد بقليلٍ حتّى نتشرّف بخدمته، ومن أجل أن نستفيد من سماحته ومن المطالب الأخلاقيّة الّتي يطرحها، من جهته كان يحضر أيضاً قبل موعد الدّرس بقليل وكان يجلس في غرفة الدّرس، وكان غالباً بل دائماً ما يقَدّم النّصائح والإرشادات بطريقةٍ غير مباشرة، بمجرّد ما كان يجلس كان ينقل روايةً أو قصّة تاريخيّة، لكن مناسبة هذا الحديث أو ذكر تلك القصّة التّاريخيّة تتماشى مع تصرّفاتنا في اليوم الماضي، كأنّه ينقل حالاتنا نحن، أو إذا كان هناك نقصٌ أو خللٌ في تصرّفاتنا كان يلفت انتباهنا إليه من خلال حديثٍ أو قصّةٍ تاريخيّة. وهذا أمرٌ قد لاحظه سائر الزّملاء بمناسبة ما، وكانوا يقولون: إنّ سماحة الشّيخ يذكر لنا مطالب تنطبق على حياتنا اليوميّة بالضّبط، وبذكر هذه القصّة أو هذا الحديث يحلّ مشاكلنا اليوميّة، أو إذا كان لدينا قصور أو اشتباه يلفت انتباهنا. هكذا كان أسلوب سماحته في إرشاد الآخرين، ولم يكن يقول لهم بشكل مباشر: اعملوا كذا، أو لا تعملوا كذا، أو قمتم بالعمل السيّء ذاك، بل كان يلفت انتباههم إلى نقص عملهم فقط، من خلال الأحاديث والقصص والحوادث التّاريخيّة، ويلفته ليصلح نفسه» . أمّا عن نهج سماحته في التّدريس فقد كان يحفّز الطّالب على تحريك ذهنه أكثر والتّفكير في المسألة بنفسه ممّا يجعل المستمع يفكّر بالمسألة، وهذا ممّا يذعن به من حضر درس سماحته من العلماء، ولهذا فإنّ درسه كان مفيداً للمجتهدين وليس لمن شرع لتوّه في البحث الخارج. وفي هذا السّياق ينقل آية الله الشّيخ المصباح اليزدي: «لقد استفدنا من درسه فوائد قلّما تحصل في دروس أخرى، كان في البداية يطرح المسألة من كتاب الشّيخ الأنصاري (قدّس سرّه)، ثمّ ينقل آراء الآخرين حول هذه المسألة، خاصّة في المسائل الّتي كانت موضع توجّه صاحب الجواهر (قدّس سرّه)، وفي بحث الطّهارة يطرح رأي المرحوم الحاج آقا رضا الهمداني(قدّس سرّه)، ثمّ بعد ذلك كان يُبدي رأيه الشّخصي في المسألة. هذه الطّريقة في التّدريس كانت مفيدةً جداً. فمن جهةٍ كانت تُطلع الآخرين على آراء العلماء الكبار في الموضوع، ومن جهةٍ أخرى كانت توفّر الكثير من الوقت، وربّما طرق تدريس الأساتذة الآخرين كانت مفيدة أكثر للطّلبة المبتدئين من حيث إنّها كانت تتناول آراء كلّ أستاذٍ على حدة، ولكنّ تناول المباحث بهذه الطّريقة يستغرق الكثير من الوقت، وأحياناً يؤدّي إلى تكرارها. وهناك نقطة مهمّة أُخري، وهي أنّ الملاحظات الّتي كان يطرحها سماحة الشّيخ أثناء درسه هي ملاحظات قيّمة وعميقة ودقيقة جدّاً، ومنقطعة النّظير» . وينقل آية الله الشّيخ الگرامي: «في أحد الأيّام حضرت أيضاً في درس الخارج عند سماحة الشّيخ، وكنّا في ذلك الوقت نحبّ طريقة التّدريس الّتي كانت تُطرَحُ فيها المطالب أوّلاً ثمّ يُشكِلُ عليها بشكل: أوّلاً وثانياً وثالثاً. عندما ذهبت إلى درس سماحة الشّيخ، كان متربّعاً على الأرض وأمامه كتابٌ مفتوح (كتاب المكاسب على الظّاهر) وطرح مسألةً ثمّ قبض على لحيته ثم استطرق إليها بأسلوبٍ تساؤليٍّ واحتماليّ ، وبعد ذلك سكت قليلاً. في البداية لم تعجبني هذه الطّريقة لكنّني عرفت فيما بعد أنّه بهذه الطّريقة يحفّز الطّالب على تحريك ذهنه أكثر، والتّفكير في المسألة بنفسه، وبرأيي هذه طريقةٌ جيّدةٌ لجعل الطّرف المخاطب يفكّر بالمسألة ويخرج عن كونه مستمعاً فقط» . وينقل أيضاً آية الله الشّيخ المسعودي الخميني: «يختلف درس الخارج عند سماحته عن سائر الدّروس، لأنّني حضرت مدّةً في درس آية الله البروجردي (قدّس سرّه)، وحضرت في درس الإمام الخميني (قدّس سرّه) بشكل دائم، وحضرت تقريباً سنتين في درس آية الله الگلپايگاني، وأيضاً حضرت مدّةً قصيرةً في درس آية الله بهاء الدّيني(قدّس سرّه). أكثر الأساتذة في درس الخارج يطرحون المسألة أوّلاً، ثمّ يقومون بذكر آراء الآخرين، يقولون على سبيل المثال: يقول الشّيخ الطّوسي (قدّس سرّه)كذا، ويقول العلّامة الحليّ (قدّس سرّه)كذا، ويقول صاحب الجواهر(قدّس سرّه) كذا، ويقول أستاذنا هكذا. ثمّ يقومون بنقد الأقوال، وفي النّهاية يؤيّدون قولاً واحداً منها أو يطرحون رأياً جديداً، ويقومون بشرحه. لكن على عكس الجميع فإنّ سماحة الشّيخ البهجة لا ينقل الأقوال، بل يذكر المسألة ثمّ يبيّن طريقة استدلاله، وبهذه الطّريقة يتوجّه المرء إلى أنّ هذا الدّليل يمكن أن يكون قد طرحه الأستاذ الفلاني، طبعاً إذا قام الطّالب بتحضير الدّرس من قبل وكانت تصوّراته الذّهنيّة جيّدة، فإنّه عندما يستمع درس سماحة الشّيخ يفهم جيّداً أنّ سماحته قد نقل رأي أيّ عالمٍ أو على أيّهم قد أشكَل، أو قول من قد أيّد. طبعاً كما ذكرت يجب أن يكون الطّالب منتبهاً جيّداً، والسّبب في كون عدد الطّلاب الّذين يحضرون درس سماحة الشّيخ قليلاً عادةً، هو أنّه يجب على الطّالب أن يطالع جيّداً وبدقّة قبل الدّرس وبعده أيضاً، ويفكّر جيّداً بكلام سماحته كي يفهم أيّ قولٍ اختاره سماحة الشّيخ أو [أيّها ] ردّه، أو إذا ما كان قد طرح رأياً جديداً. على صعيد الاستدلال والفهم الفقهي فإنّ لدى سماحته رتبةً عالية جدّاً. وعلى الرّغم من أنّه كان تلميذاً للمرحوم الغرويّ الإصفهاني، لكنّه كما ذكرت كان له أسلوب خاصّ به في التّدريس» . وينقل آية الله الشيخ محمود أمجد: «لقد كان سماحته في الأُمور العلميّة أيضاً في الأفق الأعلى، فقيهاً عظيماً جدّاً، وأعتقد أنّه يجب على المجتهدين أن يشاركوا في درس سماحته، حتّى يأخذوا النّتاج العلميّ ، والحقّ هو هذا، إنّ درس الخارج يجب أن يلقيه أمثال الشّيخ البهجة، لا الّذين يكتفون بنقل الأقوال وحسب، وفي عقيدتي أن سماحته لا نظير له في العلم» . وقد كان يلقي دروسه هذه في حجرة إحدى المدارس بعيداً عن الأضواء وطلب الصّيت والشّهرة. ثمّ اتّخذ من بيته مقراً للتّدريس على الرّغم من بساطته إلا أنّه وبعد إلحاح تلامذته الشّديد وافق على أن يكون محلّ دروسه مسجد الفاطميّة الّذي كان يؤدّي فيه صلاة الجماعة، وكانت سنة الانتقال 1418 هـ .ق، وهكذا استمرّ في إلقاء الدّروس في ذلك المسجد حتّى نهاية عمره المبارك.
كان دخول آية الله الشّيخ البهجة إلى مدينة قم المقدّسة في شوّال عام 1365 هـ . ق ولم تمضِ على إقامته عدّة شهور حتّى توفّيَ والدُه الرّؤوف في صفر 1365 هـ . ق ورقد في مضجعه بعد أن اطمأنّ على مستقبل ولده العزيز محمّد تقي. وهكذا فإن الإقامة في قم كانت مصحوبةً بحوادث مؤسفة حيث توالت الأخبار بوفاة آية الله السّيد أبوالحسن الأصفهانيّ في ذي الحجّة من عام 1365 هـ . ق وبعدها بمدّة قصيرة وبالتّحديد في شهر ربيع الأول 1366 هـ . ق رحل آية الله الميرزا السّيد علي القاضي (قدّس سرّه) إلى جوار ربّه، وكان قبل ذلك قد توفِّيَ كلٌ من آية الله آقا ضياء الدِّين العراقيّ والشّيخ محمّد حسين الأصفهاني الغروي (قدّس سرّهما) أيام إقامته بالنّجف الأشرف. ولم تشأ الأقدار أن يغادر عشَّ آلِ محمّد إلى العراق بسبب بعض الظّروف الخاصّة، وممّا زاد في عزمه على الإقامة في جوار حرم كريمة أهل البيت (عليهم السّلام) ومزاولة النّشاط العلميّ في حوزتها العلميّة هو وفاة أساتذته من كبار العلماء، وممّا يجدر بالذِّكر أنَّ الحوزة العلميّة في قم المقدّسة حينها لم يكن قد مضى على تجديدها سوى ربع قرن على يد آية الله الشّيخ عبد الكريم الحائري(قدّس سرّه)، فكانت النّتيجة أن توارد رهطٌ من العلماء والمجتهدين البارزين عليها، فزاد حضور الشّيخ البهجة فيها آثاراً علميّة مشهودة، وعلى الرّغم من إحرازه لمرتبة الاجتهاد لكنّه حرص على أداء الإحترام تجاه أساتذة الحوزة العلمية في قم المقدّسة، فبدأ نشاطه فيها بحضور درس الخارج لآية الله السيّد محمد الحجّت الكوهكمري(قدّس سرّه) ، ودرس آية الله السّيد حسين البروجردي (قدّس سرّه)، وأصبح من الّذين يكوّنون عصبةً اعتُبِرت من أبرز الشّخصيّات الّتي كانت تحضر درس السيّد البروجردي، الّذي غطّت مرجعيّته الآفاق. أما لماذا حضر الشّيخ البهجة في درس السيّد البروجردي ـ على رغم اجتهاده المطلق والتّام ومكانته العلميّة المرموقة، والّتي يشهد له بها جميع أساتذته ومن حضر درس سماحته ـ فهناك سببان: الأوّل: أنّ سماحة الشّيخ البهجة كان يقول: أنّه يجب على الطّالب إمّا أن يشتغل بالتّحصيل أو التّدريس، وحيث إنّ سماحته لم يكن لدى قدومه إلى قم مشهوراً فقرّر أن يحضر درس العلماء الموجودين في قم المقدّسة. والسّبب الثّاني: هو أنّ السّيد البروجردي طلب من الشّيخ البهجة عدّة أمور ومسؤوليّات، منها أن يكون الشّيخ البهجة من المقرّبين لدى السّيد البروجردي وخواصّه، وأن يكون من أعضاء لجنة الاستفتاءات الّتي تتألف من خواصّ العلماء، وكذلك أن يكون من ضمن اللّجنة الّتي تمتحن المجتهدين لإعطائهم إجازة الاجتهاد حسب رأي السيّد البروجردي، فما كان من الشّيخ البهجة إلّا أن رفض جميع هذه الأمور لأسبابه وشؤونه الخاصّة، فسمع سماحة الشّيخ البهجة بعدها من بعض المقرّبين من السّيد البروجرديّ أنّه قال: لا تظنّوا أنّنا مقصّرون مع الشّيخ البهجة، نحن أصررنا عليه ولكنّه لا يحضر لدينا، هو يهرب منّا، نحن نطلب منه لكنّه يرفض. وعندما علم الشّيخ البهجة أنّ السيّد البروجرديّ غير مرتاحٍ فقرّر أن يطيّب خاطر السيّد البروجرديّ، وذلك بحضور بحثه الخارج، وبقي على ذلك إلى آخر حياة السيّد البروجرديّ. وبرز الشّيخ البهجة فور وصوله كأحد أبرز الفضلاء المعروفين بطرح الإشكالات العلميّة في درس السيّد البروجرديّ. وفي هذا السّياق ينقل آية الله الحاج الشّيخ مرتضى الحائريّ (قدّس سرّه) : «إنّ سماحة آية الله العظمى البهجة في نفس السّنة الأولى لحضوره في درس آية الله العظمى البروجرديّ(قدّس سرّه) سنة 1324 هـ. ش كان يظهر النّكات الدّقيقة والإشكالات المهمّة، ممّا جعل نظر الأُستاذ يتوجّه إليه باهتمامٍ فائق، بحيث خرج مجلس الدّرس عن حالته لعدّة أيّام، وكانت هذه الإشكالات والإجابات مفيدةً لنا جدّاً. فجأةً تغيّب سماحة آية الله العظمى البهجة عن الحضور في الدّرس، فصار آية الله العظمى البروجرديّ(قدّس سرّه) يستفسر عنه، ولكن لم يكن خبره عند أحد، إلى أن أتى سماحته بعد عدّة أيّام إلى الدّرس مشاركاً فيه وهو ساكت لا يتكلّم، ولم يكن يسأل ويجيب. ذهبنا إليه وطلبنا منه أن يتابع أسئلته وأجوبته، ولكنّه لم يقبل، فَدارَ في أذهانِنا أنّه لربّما قد أذّاه أحد، ولكن عرفنا أنّ سماحته ترك ذلك للتحرّز من الشّهرة، حيث كان قد أصبح مشهوراً بين الخواصّ والعوامّ» . إلى جانب ذلك كانت لشيخنا الرّاحل نشاطات عدّة منها: بدأ بعد دخوله مدينة قم المقدّسة مباشرة بالتّدريس وبعد مضيّ سنة على ذلك، شرع بتدريس خارج الفقه والأصول، واستمرّت دروسه هذه لأكثر من ستّين عاماً حتّى وافاه الأجل، ففي الصّباح كان يلقي محاضراته بتدريس خارج الفقه، وفي المساء يلقي درس خارج الأصول. أجل فقد كان دأب سماحته الاعتذار من الدّخول في ما يوجب الشّهرة وما شابه ذلك، ولكنّه(قدّس سرّه) كان يلبّي الدّعوة في المسائل الضّروريّة الّتي تستدعي تدخّل أمثال سماحته، وهناك قضيّة تدلّ على ذلك حيث إنّه وفي أحد الأيّام طلبوا من سماحته الدّخول إلى القسم الدّاخلي من بيت السيّد البروجرديّ، وكان هناك من الأعلام العظام كآية الله الشّيخ الزّاهديّ القمّي (قدّس سرّه)، وآية الله السيّد الخميني (قدّس سرّه)، وآية الله الشّيخ كمالوَند (قدّس سرّه)، وكان أصغرهم سنّاً هو سماحة الشّيخ البهجة، وكان هناك قضيّة تتعلّق بشخصٍ ادّعى النّبوة ومسائل مهمّة أخرى، فطلب السيّد البروجردي من الحضور أراءهم حول مدَّعي النّبوة، فاتّفق الجميع على الحكم بأنّه مجنون، وتمّ الأمر، فرأى سماحة الشّيخ أنّه ليس من المصلحة إصدار حكم الجنون، فقال سماحة الشّيخ البهجة لآية الله الشّيخ روح الله كمالوَند، والّذي كان جالساً بجواره: «بالأصل هل من الصّلاح أن يكتب سماحته [السيّد البروجردي] شيئاً؟! هل من الصّلاح أن تكتب الحوزة شيئاً؟! هل الدّخول في هذه المسائل هو بصالح الحوزة؟!» فتكلّم الشّيخ كمالوند بما قاله له سماحة الشّيخ البهجة بصوت مرتفع، في مقابل آراء جميع أولئك العظام ـ الّذين أكّدوا الرّأي السابق ـ في تلك الجلسة لم يتّخذ آية الله السيّد البروجردي قراراً نهائيّاً، ولكن عندما التقى سماحة الشّيخ بابن السيّد البروجردي سأله سماحة الشّيخ: ماذا حصل يومها؟ فقال له: إنّ السيّد البروجردي استحسن فيما بعد رأيكم في هذه المسألة، ورأى أنّه من الأصلح أن لا يتدخّل في هكذا أمور! إن من أبرز علائم شخصيّة آية الله الشيخ البهجة هو السّعي لكي يبقى مجهولاً ولا يكون مشهوراً مطلقاً، فتراه يجهد ويصرّ أن لا يوضع له اسم أو ذِكر في أي مكانٍ، وخير دليل على ذلك أنّه امتنع من توجيه الإشكالات وإيراد النّقد خلال الدّروس الّتي كان يحضرها عند كبار الفقهاء في قم المقدّسة؛ لأنّه رأى أنّ هذه الآراء والإشكالات الّتي يوردها تثير انتباه الآخرين نحوه وتوجِّهُ الأنظار إليه، ممّا يؤدي إلى ذياع صيته وهذا ما كان يفرّ منه سماحته. وكثيراً ما كان العلماء يحضّون الطّلبة على الحضور في درس سماحته. ومن جملتهم آية الله السيّد الخميني(قدّس سرّه) الّذي كان يوصي نجله السيّد أحمد بذلك، وكذلك بعض الشّخصيّات العلميّة أمثال الشّهيد الشّيخ المطهّري(قدّس سرّه) حيث ينقل آية الله الشّيخ محمد حسن الفقيه اليزدي: «لقد كان آية الله المطهّري عند الحديث حول درس آية الله البهجة يوصي كثيراً ويقول: يجب أن تشاركوا في درس سماحته، خصوصاً درس الأُصول» . وينقل الأستاذ خسروشاهي أنّ آية الله الشّيخ مرتضى الحائري (قدّس سرّه) كان يقول: «سأعطيكم ضابطةً، وهي أن تشاركوا في درس الشّخص الّذي لا ينقل الأقوال فقط، وإنّما يحقّق الأقوال، ويبيّن في درسه نكاتاً، الأمر الّذي هو مفيدٌ جدّاً في الإيصال إلى فعليّة ملكة الاجتهاد، مثل هذا الدّرس مفيد لكم بحيث يُخرِج ملكة الاجتهاد من القوّة إلى الفعل، ولا يكتفي بنقل الأقوال، ثم يقول الأستاذ خسروشاهي: لقد ذكرت لآية الله الحائري درس الشّيخ البهجة فقال: إنّ درس سماحته يمتلك نفس القاعدة والضّابطة الّتي قلت لكم من حيث الدّقة والمضمون، من الجيّد أن تشاركوا في درس سماحته، درس سماحته بنّاء من كافّة النّواحي، من النّاحيّة العلميّة ومن النّاحيّة الأخلاقيّة، استمرّوا في الحضور في هذا الدّرس» . وحتّى في فترة تدريسه فيما بعد حرص على أن يلقي دروسه في مكان غير معروف، بل ولم يبذل أدنى جهد للتّعريف أنّه قد شرع في التّدريس. ومن جملة ممارساته وسلوكيّاته الّتي كان بواسطتها يحاول أن يبقى مجهول القدر والشّأن وبعيداً عن الصّيت والشّهرة، هو حضوره دروس آية الله الحجّت الكوهكمري وآية الله البروجردي، رغم اجتهاده المسلَّم به، وعلى الرغم من قدرته على تدريس البحث الخارج وهروبه من الشّهرة، كان يحضر لدى سماحته الخواصّ من الأفاضل، والّذين أصبح بعضهم لاحقاً من مراجع الدّين أو من كبار العلماء. وفي هذا المضمار ينقل الفيلسوف الكبير جلال الآشتياني(قدّس سرّه): «لقد سمعنا قبل خمسين عاماً أنّ سماحة آية الله العظمى البهجة قد بدأ في تدريس البحث الخارج، عندما سمعنا بذلك سررنا كثيراً، حيث إنّنا تمكنّا من سماع النّظريات العميقة والّدقيقة لآية الله العظمى الغروي الاصفهاني الكمباني(قدّس سرّه) من لسان تلميذه، لأنّ الحوزة كانت تحتاج لشخص من هذا القبيل، بحيث يقرّر آراء ونظريّات الشّيخ الغروي ويظهرها بشكل واضح، لأنّ الكثيرين كانوا يُشْكِلونَ على الحاجّ الشّيخ [الأصفهاني]، إذ أنّهم لم يكونوا قد عرفوا أصل المطلب. لهذا حضرنا درسه مع عدد آخر من الفضلاء، ولكن بعد شهرين من الحضور في الدّرس، رأينا أنّ سماحته وهو في هذه السنّ غير الكبيرة، ليس فقط أنّه لا يقرّر مباني المرحوم الأستاذ الغروي الأصفهاني(قدّس سرّه)، وإنّما لديه مطالب توازي تلك بنفس العمق والوزن. كان سماحته بداية يدخل في أصل المطلب ويشير إلى آراء أُستاذه إشارة، وكان يبدأ بالتّحقيق والتّدقيق، في حين أنّنا وقتها لم نكن قد فهمنا مقصد المرحوم الأستاذ، كان سماحته لديه مطالب من نفسه بهذه الدّقة والعمق، لذلك أصبح لدينا مشكلتان [أي] عدم فهم مطالب المرحوم الكمباني(قدّس سرّه)، وأيضاً آراء سماحته ، بالنّهاية أجبرنا على ترك ذاك الدّرس» . وينقل آية الله الشّبيري الزّنجاني أحد المراجع في مدينة قم المقدّسة: «كنت قد شاركت لفترة قصيرة في درس سماحته أنا والسيّد مهدي الرّوحاني، كان سماحته في الدّرس دقيق النّظر جداً ... بعد الدّرس كلّما كنت أريد أن أرتّب له حذاءه كان لا يسمح لي بذلك» . فكانت دروسه ذات فوائد جمّة ودقائق وظرائف علميّة استثنائيّة متميّزة، وفي ذلك يقول آية الله الشّيخ مصباح اليزدي: «الفوائد الّتي كنّا نجنيها في درس سماحة الشّيخ كانت أكثر من الدّروس الأُخري . إنّ آية الله سماحة الشّيخ البهجة هو جامع تدقيقات المرحوم الشّيخ محمّد تقي الشّيرازي (قدّس سرّه) (عن طريق أبرز تلامذته الشّيخ محمّد كاظم) وكذلك جامع ابتكارات المرحوم النّائيني (قدّس سرّه) والمرحوم الشّيخ محمّد حسين الإصفهاني (قدّس سرّه)، وجامع تربية المرحوم السيّد علي القاضي (قدّس سرّه). هذه الشخصيّات العظيمة كانت سبباً في تشكيل شخصيّة هذا الإنسان العظيم الّذي جمع الكثير من الخصال العظيمة من هؤلاء الأساتذة، وهذا الإنسان هو نعمة عظيمة علينا في هذا العصر وفرصة ثمينة للنّاس، لكي يستفيدوا من جميع لحظات عمره الشّريف» . وينقل آية الله الشّيخ محمّد حسن أحمدي الفقيه اليزدي: «كان سماحته يعطي درسه بشكل مضغوط جداً، فدرس سماحته له حكم خارج الخارج، أقصد هذا، أنّه كان لديه مباني العلماء العظام كالميرزا النّائيني، والشّيخ محمّد حسين، والآقا ضياء، حيث كان يشير إشارة قصيرة لمبانيهم، ثمّ يقرّر ويرسّخ مبانيه». وينقل آية الله الشّيخ محمّد حسين أحمدي الفقيه اليزدي: «إذا أردنا أن نتوجّه مع العناية الخاصّة إلى الجنبة العلميّة لسماحته، الخصائص الّتي هي موجودة في درس سماحته والّتي تنشأ من ناحية فكر سماحته، وتبيّن هذه المسألة بشكل جيّد، لأنّ سماحته يعنون كلّ مسألة أو فرع فقهيّ بعد الالتفات إلى الأشياء الدّقيقة في الآية والرّواية الّتي لها دلالة على هذا البحث، يقايس بين ذاك البحث وبقيّة الأبحاث المشابهة، وبعد التّدقيق العقليّ والفكريّ الخاصّ في التّعادل بين المباحث، إنصافاً كان سماحته يصل لنتيجة علميّة جديدة بفراسة وتفكّر واجتهاد خاصّ. وبالأساس فإنّ اعتقادنا نحن الشّيعة هو أنّ كلّ مجتهد يمتلك حذاقة وفطانة، ويدقّق في معاني ومطالب الرّوايات، بالحدّ والعظمة الّتي نعلمها الأقرب للأئمّة (عليهم السّلام). وبالفعل كنّا نرى أنّ سماحته يجزّئ المباحث ويحلّلها بنظره وفكره الخاصّ، الاجتهاد الصّحيح في الواقع هو هذا، حيث إنّ المجتهد بعد أن يلاحظ شأن نزول الآيات وشأن صدور الرّوايات والأحاديث، وبأفق عالٍ يدقّق تلك الدّقّة، كأنّه يلمسه ويضع نفسه في متن الحادثة الّتي يبحثها، يقايس زمان نزول الآيات وصدور الأحاديث مع الزّمان، بعدها يرى ما هو المراد الإلهيّ واقعاً، وكذا رضا الله سبحانه في هذا المورد مع الالتفات إلى مجموع أوامر الشّرع الإسلاميّ. وهذا مبنى مهمّ للاجتهاد، ونحن قد شاهدنا ذلك بوضوح في أبحاث سماحته، وأنا أعتقد أنّه إذا لم يصل المجتهد إلى هذا المقام، لا يستطيع أن يفتي ويبيّن نظره، بل إنّ المجتهد وفوق امتلاكه للعدالة والاجتهاد، يجب أن يحوز هذه الملكة، بنحوٍ يستطيع أن يمتلك رؤية دقيقة ونظراً عميقاً معنويّاً إلى مجموع أحكام الإسلام ونظريّاته، وأن يتمكّن من بيان فتواه ونظره في مورد البحث، وفي نظري هذه الحالة موجودة في الشّخصيّات الّتي تربّت على أيدي الأئمّة (عليهم السّلام). وهذه الخصوصيّة ظاهرة بوضوح في شخصيّة الشّيخ البهجة الجذّابة، فكلّ شخص يشارك في درس سماحته لفترة ويتعرّف على سماحته من قرب، يرى ذلك من استنباطات واجتهادات سماحته. والنّظر الاجتهاديّ العالي يتطلّب رؤية ما وراء الأحاديث والرّوايات، وأن يرى مبنى الإسلام الأساسي والحركة التّربويّة لأحكام الإسلام، وهذه الرّؤية هي فوق ملكة الاجتهاد والعدالة و.... ونحن كنّا قد رأينا هذه الميزة خصوصاً في شخصيّة سماحة الشّيخ البهجة» . ويضيف آية الله الشّيخ محمّد حسين أحمدي الفقيه اليزدي: «هذه خصوصيّة عظيمة قد رأيناها في شخصيّة الشّيخ البهجة، حيث كان يمتلك تلك الملَكَة الكاملة والعالية، وكان يتمكّن بنظر سامٍ وأفقٍ عالٍ أن يعي آثار الوحي ويظهر اجتهاده العميق» . ويقول آية الله الأمجد: «إنّ درس الشّيخ البهجة مفيد للمجتهدين الّذين حصلوا على الاجتهاد من دروس سابقة، والآن يريدون الحصول على الفوائد الجمّة الّتي تخصّ المجتهد». نعم، فلقد كان سماحته نبراساً في العلم والفهم لكلام المعصومين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، ولكن لم يكن درس سماحته مقتصراً على الفقه والأُصول، وإنّما كان يتضمّن في طيّاته ذكر معارف جمّة ومطالب مهمّة، لا غنى عنها بل كان يدرأ عن أذهان الآخرين الشّبهات بواسطة فطانته وكياسته. وفي هذا ينقل آية الله الشّيخ مصباح اليزدي: «كما ذكرنا سابقاً أنّه من صفات سماحته أنّه عندما كنّا نحضر درسه كان قبل شروع الدّرس يروي حديثاً أو ينقل قصّة تاريخيّة، وكان في بعض الأحيان موضع تعجّبٍ لدينا، وذلك عندما كان يؤكّدُ ويُصرّ على مطالب بديهيّة ومعلومة، ومن جملة هذه المطالب مسألة إمامة أمير المؤمنين (عليه السّلام) فقد كنّا نستغرب من تأكيده على هذا المطلب، لأنّه لا شكّ ولا شبهة لدينا في هذا الموضوع ولا داعي لأن يذكر ويكرّر لنا أدلّة إمامة أمير المؤمنين (عليه السّلام)، على كلّ حال كنّا نتساءل أنّه لماذا يطرح سماحته علينا هذا الموضوع بدل أن يذكر لنا الأمور الأخلاقيّة والمعنويّة الّتي نحن بحاجة إليها أكثر، لكن بعدما وصلنا إلى سنّ الخمسين والستّين رأينا في كثيرٍ من الموارد أنّ هذه المباحث الّتي كان يطرحها علينا سماحة الشّيخ قبل أربعين سنة حول موضوع إمامة أمير المؤمنين (عليه السّلام) إنّنا بحاجة إليها، لقد كان سماحة الشّيخ يعلم بأنّ هذه الأمور ستصبح موضع شكٍّ وغفلةٍ في هذه الأيّام، وأنّنا سنحتاج إلى تلك الملاحظات والنّصائح في ذلك الباب، لهذا كان يهيِّئنا منذ ذلك الزّمن لمثل هذه الأيّام، وربّما لولا توصياته هذه لم نكن لنفكّر أصلاً في أن نبحث ونطالع في هذه المسائل» . فقد كانت هذه الاستدلالات والنّتاجات على درجة من الدّقة والعمق، بحيث إنّ آية الله الشّيخ مصباح اليزدي يقول: «لقد استعملت هذه النّتاجات في كتاباتي حول المسائل العقائديّة وغيرها» . ينقل آية الله الشّيخ الگرامي: «و أنا أكّدت مراراً على الطّلاب فيما سبق، وحتّى قبل أن يشتهر سماحة الشّيخ في المرجعيّة، أن يستفيدوا من سماحته. هذه الأمور أشبَه بالتّاريخ المتحرّك وتزول مع مرور الوقت، ويجب أن يكون هناك محفوظاتٌ كثيرة لسماحة الشّيخ وعلينا أن نستفيد منها. لساننا عاجزٌ عن بيان الدّرجات الحقيقيّة لهذا الشّيخ العظيم، حقيقته ومعنويّته تُدرَكُ ولا توصف!» . وينقل أيضاً آية الله الشّيخ المصباح اليزدي: «عادةً كنّا نحضر إلى درس سماحته قبل الموعد بقليلٍ حتّى نتشرّف بخدمته، ومن أجل أن نستفيد من سماحته ومن المطالب الأخلاقيّة الّتي يطرحها، من جهته كان يحضر أيضاً قبل موعد الدّرس بقليل وكان يجلس في غرفة الدّرس، وكان غالباً بل دائماً ما يقَدّم النّصائح والإرشادات بطريقةٍ غير مباشرة، بمجرّد ما كان يجلس كان ينقل روايةً أو قصّة تاريخيّة، لكن مناسبة هذا الحديث أو ذكر تلك القصّة التّاريخيّة تتماشى مع تصرّفاتنا في اليوم الماضي، كأنّه ينقل حالاتنا نحن، أو إذا كان هناك نقصٌ أو خللٌ في تصرّفاتنا كان يلفت انتباهنا إليه من خلال حديثٍ أو قصّةٍ تاريخيّة. وهذا أمرٌ قد لاحظه سائر الزّملاء بمناسبة ما، وكانوا يقولون: إنّ سماحة الشّيخ يذكر لنا مطالب تنطبق على حياتنا اليوميّة بالضّبط، وبذكر هذه القصّة أو هذا الحديث يحلّ مشاكلنا اليوميّة، أو إذا كان لدينا قصور أو اشتباه يلفت انتباهنا. هكذا كان أسلوب سماحته في إرشاد الآخرين، ولم يكن يقول لهم بشكل مباشر: اعملوا كذا، أو لا تعملوا كذا، أو قمتم بالعمل السيّء ذاك، بل كان يلفت انتباههم إلى نقص عملهم فقط، من خلال الأحاديث والقصص والحوادث التّاريخيّة، ويلفته ليصلح نفسه» . أمّا عن نهج سماحته في التّدريس فقد كان يحفّز الطّالب على تحريك ذهنه أكثر والتّفكير في المسألة بنفسه ممّا يجعل المستمع يفكّر بالمسألة، وهذا ممّا يذعن به من حضر درس سماحته من العلماء، ولهذا فإنّ درسه كان مفيداً للمجتهدين وليس لمن شرع لتوّه في البحث الخارج. وفي هذا السّياق ينقل آية الله الشّيخ المصباح اليزدي: «لقد استفدنا من درسه فوائد قلّما تحصل في دروس أخرى، كان في البداية يطرح المسألة من كتاب الشّيخ الأنصاري (قدّس سرّه)، ثمّ ينقل آراء الآخرين حول هذه المسألة، خاصّة في المسائل الّتي كانت موضع توجّه صاحب الجواهر (قدّس سرّه)، وفي بحث الطّهارة يطرح رأي المرحوم الحاج آقا رضا الهمداني(قدّس سرّه)، ثمّ بعد ذلك كان يُبدي رأيه الشّخصي في المسألة. هذه الطّريقة في التّدريس كانت مفيدةً جداً. فمن جهةٍ كانت تُطلع الآخرين على آراء العلماء الكبار في الموضوع، ومن جهةٍ أخرى كانت توفّر الكثير من الوقت، وربّما طرق تدريس الأساتذة الآخرين كانت مفيدة أكثر للطّلبة المبتدئين من حيث إنّها كانت تتناول آراء كلّ أستاذٍ على حدة، ولكنّ تناول المباحث بهذه الطّريقة يستغرق الكثير من الوقت، وأحياناً يؤدّي إلى تكرارها. وهناك نقطة مهمّة أُخري، وهي أنّ الملاحظات الّتي كان يطرحها سماحة الشّيخ أثناء درسه هي ملاحظات قيّمة وعميقة ودقيقة جدّاً، ومنقطعة النّظير» . وينقل آية الله الشّيخ الگرامي: «في أحد الأيّام حضرت أيضاً في درس الخارج عند سماحة الشّيخ، وكنّا في ذلك الوقت نحبّ طريقة التّدريس الّتي كانت تُطرَحُ فيها المطالب أوّلاً ثمّ يُشكِلُ عليها بشكل: أوّلاً وثانياً وثالثاً. عندما ذهبت إلى درس سماحة الشّيخ، كان متربّعاً على الأرض وأمامه كتابٌ مفتوح (كتاب المكاسب على الظّاهر) وطرح مسألةً ثمّ قبض على لحيته ثم استطرق إليها بأسلوبٍ تساؤليٍّ واحتماليّ ، وبعد ذلك سكت قليلاً. في البداية لم تعجبني هذه الطّريقة لكنّني عرفت فيما بعد أنّه بهذه الطّريقة يحفّز الطّالب على تحريك ذهنه أكثر، والتّفكير في المسألة بنفسه، وبرأيي هذه طريقةٌ جيّدةٌ لجعل الطّرف المخاطب يفكّر بالمسألة ويخرج عن كونه مستمعاً فقط» . وينقل أيضاً آية الله الشّيخ المسعودي الخميني: «يختلف درس الخارج عند سماحته عن سائر الدّروس، لأنّني حضرت مدّةً في درس آية الله البروجردي (قدّس سرّه)، وحضرت في درس الإمام الخميني (قدّس سرّه) بشكل دائم، وحضرت تقريباً سنتين في درس آية الله الگلپايگاني، وأيضاً حضرت مدّةً قصيرةً في درس آية الله بهاء الدّيني(قدّس سرّه). أكثر الأساتذة في درس الخارج يطرحون المسألة أوّلاً، ثمّ يقومون بذكر آراء الآخرين، يقولون على سبيل المثال: يقول الشّيخ الطّوسي (قدّس سرّه)كذا، ويقول العلّامة الحليّ (قدّس سرّه)كذا، ويقول صاحب الجواهر(قدّس سرّه) كذا، ويقول أستاذنا هكذا. ثمّ يقومون بنقد الأقوال، وفي النّهاية يؤيّدون قولاً واحداً منها أو يطرحون رأياً جديداً، ويقومون بشرحه. لكن على عكس الجميع فإنّ سماحة الشّيخ البهجة لا ينقل الأقوال، بل يذكر المسألة ثمّ يبيّن طريقة استدلاله، وبهذه الطّريقة يتوجّه المرء إلى أنّ هذا الدّليل يمكن أن يكون قد طرحه الأستاذ الفلاني، طبعاً إذا قام الطّالب بتحضير الدّرس من قبل وكانت تصوّراته الذّهنيّة جيّدة، فإنّه عندما يستمع درس سماحة الشّيخ يفهم جيّداً أنّ سماحته قد نقل رأي أيّ عالمٍ أو على أيّهم قد أشكَل، أو قول من قد أيّد. طبعاً كما ذكرت يجب أن يكون الطّالب منتبهاً جيّداً، والسّبب في كون عدد الطّلاب الّذين يحضرون درس سماحة الشّيخ قليلاً عادةً، هو أنّه يجب على الطّالب أن يطالع جيّداً وبدقّة قبل الدّرس وبعده أيضاً، ويفكّر جيّداً بكلام سماحته كي يفهم أيّ قولٍ اختاره سماحة الشّيخ أو [أيّها ] ردّه، أو إذا ما كان قد طرح رأياً جديداً. على صعيد الاستدلال والفهم الفقهي فإنّ لدى سماحته رتبةً عالية جدّاً. وعلى الرّغم من أنّه كان تلميذاً للمرحوم الغرويّ الإصفهاني، لكنّه كما ذكرت كان له أسلوب خاصّ به في التّدريس» . وينقل آية الله الشيخ محمود أمجد: «لقد كان سماحته في الأُمور العلميّة أيضاً في الأفق الأعلى، فقيهاً عظيماً جدّاً، وأعتقد أنّه يجب على المجتهدين أن يشاركوا في درس سماحته، حتّى يأخذوا النّتاج العلميّ ، والحقّ هو هذا، إنّ درس الخارج يجب أن يلقيه أمثال الشّيخ البهجة، لا الّذين يكتفون بنقل الأقوال وحسب، وفي عقيدتي أن سماحته لا نظير له في العلم» . وقد كان يلقي دروسه هذه في حجرة إحدى المدارس بعيداً عن الأضواء وطلب الصّيت والشّهرة. ثمّ اتّخذ من بيته مقراً للتّدريس على الرّغم من بساطته إلا أنّه وبعد إلحاح تلامذته الشّديد وافق على أن يكون محلّ دروسه مسجد الفاطميّة الّذي كان يؤدّي فيه صلاة الجماعة، وكانت سنة الانتقال 1418 هـ .ق، وهكذا استمرّ في إلقاء الدّروس في ذلك المسجد حتّى نهاية عمره المبارك.
وفي خضمّ هذه النّشاطات لم يغفل هذا العبد الصّالح جانب تدوين وتصنيف نظريّاته العلميّة وآرائه الفقهية. وله في هذا المجال مؤلّفات عديدة في الفقه والأُصول، إلّا أنّه كان يمتنع عن طبع أكثرها ولم يستطع بعض من حوله أن يحصل على موافقته بتغطية تكاليف طبعها دون الاستفادة من الحقوق الشّرعيّة، وكان يقول لهم: «هناك الكثير من تصانيف أعاظم العلماء لا تزال بصورتها الخطيّة، فبادروا إلى طبع تلك، عند ذاك يأتي دور هذه!». ومن جملة مصنّفات هذا العالم الكبير هي: ? «مباحث الأُصول» دورة أُصوليّة كاملة. ? حاشية على مكاسب الشّيخ الأنصاري(قدّس سرّه)، إلى نهاية المباحث الخاصّة بالمتاجر. ? دورة فقهيّة تحت عنوان «بهجة الفقيه» تشمل كتاب الطّهارة والصّلاة والزّكاة والخمس. ? حاشية على كتاب ذخيرة العباد للمرحوم الشّيخ محمّد حسين الغروي(قدّس سرّه). ? حاشية على مناسك الشّيخ الأنصاري(قدّس سرّه). وله أيضاً تصنيفات أدبيّة وشعريّة في ثلاثة مجلّدات، وهي في الكلام والعرفان و... ومن جملة ما طبع من كتبه في حياته وبإلحاح ومباشرة بعض تلاميذه هي: ? «وسيلة النّجاة» يشتمل هذا الكتاب على آرائه الفقهيّة في بعض أبواب الفقه تعليقاً على متن كتاب «وسيلةالنّجاة» تأليف أستاذه آية الله السّيد أبوالحسن الأصفهاني، وطُبع منه المجلّد الأوّل بموافقته. ? «جامع المسائل» دورة فتاوى فقهيّة، وهي حصيلة جهود هذا الفقيه الفذّ طيلة 25 سنة من عمره منذ تصدّيه للمرجعيّة وهي دورة نادرة من نوعها، وطبعت في 5 مجلّدات عام 1413هـ.ق. ? المجلّد الأوّل من دورة «بهجة الفقيه». ? المجلد الأوّل والثّاني من دورة «مباحث الأصول». وأمّا الكتابان التاليان فقد تمّ تدوينهما من قبل بعض الفضلاء طبق فتواه (البالغ مناه)، وبعد حصول الموافقة من سماحته، وهي: ? «رسالة توضيح المسائل» بالفارسيّة والعربيّة. ? «مناسك الحج». فحصيلة أكثر من نصف قرن من الجدّ والجهد العلميّ والمجاهدة السّلوكيّة دون كلل أو ملل قد أعطت من الثّمار والبركات ما لا يعدّ ولا يحصى، ولا يمكن ذكرها ضمن هذه السّطور الوجيزة.
ونفس الأمر بخصوص المرجعيّة، فإنّه لم يحاول طرح نفسه أبداً. وكان يأبى دائماً التصدّي لها على الرّغم من تاريخه العريق في تدريس خارج الفقه والأصول لمدّة نصف قرن. إلّا أنّ الّذي حصل بعد رحيل آية الله السّيد أحمد الخوانساري(قدّس سرّه)، وآية الله السيد أبو القاسم الخوئي(قدّس سرّه)، هو كثرة الطلّبات بإلحاح من كثير من العلماء والمؤمنين بطبع رسالته العلميّة، وفي كلّ مرّة يطلبون من سماحته أن يصدر رسالة عمليّة كان يقول: «الآخرون موجودون ليحملوا هذا الثّقل على عاتقهم!». إلى ما بعد رحيل المجتهدين الماضين، جاء إلى سماحته علماء كبار وألحّوا في الطّلب المتكرّر، وقالوا لسماحته: إنّ المعاصرين لسماحتكم قد رحلوا ولم يَبْقَ أحد، فكان النّظر في هذه المسألة بالنّسبة لسماحته يبعث على الاستغراب وعدم الارتياح، فكان سماحته يجيبهم: «اصبروا حتّى ينشر كلّ من يريد أن يطبع رسالته، بعد ذلك إذا بقي شخص لم يقلّد أحداً من الآخرين، وأراد أن يقلّدني أنا العبد فقط، وكان مصرّاً على ذلك، حينها انشروا فتاواي» ، إلى أن أصرّوا كثيراً فقَبِلَ سماحته أن تُطبع فتاواه دون ذكر اسمه، فمع هذا لم يرض سماحته أن يذكر اسمه على الرّسالة العمليّة، وبالنّهاية ورغم الإصرار طبعت الرسالة بدون ذكر اسم سماحته، ومن الطّبعة السّادسة وما بعد تمّ كتابة ما يلي وبدون ذكر الألقاب: «العبد محمّد تقي البهجة»، ومرّة أخرى تنكشف ترنّمات الأنوار السّبحانيّة في حالات وتصرّفات العظماء من أولياء الله . كذلك في المجالس الّتي كان يقيمها سماحته، حيث كان(قدّس سرّه) يوصي خطباء المجالس أن لا يذكروا اسمه، لا في أثناء المجلس ولا في آخر المجلس، كما هو الرّائج بدعاء الخطيب لصاحب المجلس. لقد كان قبول سماحة الشّيخ البهجة للمرجعيّة أمراً مستغربا جدّاً، لا سيما لدى من كان يعرف سماحته ومن كان يعرف هروبه من التصدّي للمرجعيّة، وذلك على الرغم من اشتهار أعلميته وذياع صيت تقواه وورعه بين الخاصّ والعامّ. وفي هذا السّياق ينقل آية الله الشّيخ مصباح اليزدي: «أنا شخصيّاً أرى أنّ تصدّي سماحته للمرجعيّة يُعدّ من كراماته أيضاً، فظروف حياته الصّعبة وخاصّةً في ذاك العمر الّذي ناهز الثّمانين، لم تكن تسمح له بقبول عبءٍ ثقيلٍ كهذا، والأشخاص الّذين كانوا يعرفون سماحة الشّيخ لم يتوقّعوا أن يحمل سماحته لواء المرجعيّة على كتفه وأن يقبل هذه المسؤوليّة. وبلا شكّ فإنّ السّبب الوحيد الّذي دفع سماحته لقبول مسؤوليّة المرجعيّة هو إحساسه بالوظيفة المتعيّنة، لا باعث غير ذلك. ويجدر بالذّكر أنّ تصرّفات سماحته في هذا الزّمن مع هذه الطّهارة والزّهد تُتِمّ الحجّة على الآخرين، إنّه يمكن أن تكون مرجعاً وتعيش بهذه البساطة، بدون أن يحصل أيّ تغيير في الملبس والمأكل والمسكن وشروط الحياة» . فلم تكن تهمّه مسألة طرح اسمه من بين المراجع، ولم يكن يعير لهذه المسألة انتباهاً أبداً، بل كان يعارض ذلك كثيراً وبقوّة، وينقل نجل سماحته في ذلك: «قبل وفاة آية الله الأراكي أُخبر سماحتُه بأنّ هناك نيّةً لطرح اسمه مرجعاً من قبل جامعة مدرسي الحوزة العلميّة فأرسل إليهم: لا أرضى بأن يُطرح اسمي!». كما كان سماحته يهرب من الشّهرة في الأمور المعنويّة والكرامات، كذلك كان دأبه في نأيه عن التّصدّي للمرجعيّة بكلّ ما أوتي من قوّة وبشتّى الأساليب، إذ ينقل أحد خواصّ طلبة سماحته، أنّه في أحد دروس سماحته لم يكن يطرح البحث كعادته في التّعمق وبيان آرائه الدّقيقة والعميقة، بل كأنّ سماحته كان يتعمّد عرض البحث بشكلٍ مبسّط، وعندما انتهى الدرس رأينا أنّه كان من بين الحضور أحد الأشخاص الّذين يعوّل عليه في تعيين مراجع التّقليد ويعتمد عوامّ النّاس على كلامهم في تحديد مرجع التّقليد، فقد تعمّد سماحته طرح الدّرس بشكل مبسّط حتّى لا يبيّن مدى علميّته أمام ذاك الشّخص، وبالتّالي فلا يُطرح اسمه من بين الأشخاص المنتخَبين للمرجعيّة. في حين أنّه من الطّبيعي أنّ كلّ عالم يحبّ أن يبرز علميّته، ولا سيما في مثل موقف سماحته، ولكنّه أبى ذلك فراراً من الشّهرة الّتي تعدّ أمراً ليس ممدوحاً لدى أولياء الله المخلصين، ولكن أبى الله إلا أن يشيع لعبده فضله وعلميّته بين النّاس الخاصّ منهم والعامّ. ينقل الشّيخ الرّيشهري في كتابه زمزم عرفان عن لسان سماحة الشّيخ علي نجل سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه): «إنّه قبل أحد عشر شهراً من وفاة والدي اتّصل بي أحد علماء الدّين من طهران اسمه الشّيخ أُويسي وقال لي: إنّ هناك شخصاً يعيش في الدانمارك يريد أن يصل لخدمة سماحة الشّيخ البهجة، فقلت: لا يوجد لدى سماحته لقاءات خاصّة. فقال: يريد أن يدفع أموالاً شرعيّة لديه، فقلت له: يمكنه تسليم المبلغ لمكتب سماحته أو أن يضعه في الحساب المصرفي. فقال لي الشّيخ أُويسي: هو يريد أن يسلّم المبلغ بنفسه بيد سماحة الشّيخ حيث إنّ هذا الشّخص لديه قضيّة خاصّة وأصرّ على ذلك. فقلت له: نحن لا مجال لدينا للقيام بهذا الأمر، يمكنه أن يأتي للمسجد صباح الجمعة فقط ويسلّمه بيد سماحة الشّيخ. أحد أيّام الجمعة جاء هذا الشّخص إلى قم ووُفق القرار السّابق التقى بسماحة الشّيخ في ممرّ المسجد وأعطى لسماحته ظرفاً، عندما رجع والدي من المسجد ودخل إلى غرفته جاء هؤلاء إليّ ، والشّخص الّذي كان يريد لقاء سماحته كان أصله عراقيّاً وعمره بين الأربعين إلى خمسين سنة، وكان يتكلّم العربيّة، ولكنّ أخا زوجته كان يعرف الفارسيّة، وكان معهما أحد الطّلبة. يقول ذاك الشّخص: لقد كنت مدّة أربع عشرة ساعة في الطّائرة حتّى وصلت إلى طهران. فقلت له: ليس ضروريّاً أن تأتي إلى قم لتدفع الحقوق الشّرعيّة، كان يمكنك أن تقوم بهذا عن طريق الإنترنت. فقال: أنا لست بسيطاً، أملك خمسة مجمّعات تجارية في السّويد والدّانمارك، وإدارة واحد منها يصعب في الوطن فضلاً عن إدارة خمسة مجمّعات في بلاد أجنبيّة. وهذا المبلغ من الدّولارات أحضرته بيدي بصعوبة، وأنا لست الشّخص الّذي يمكن لأحد أن يخدعني بسهولة وأن أصدّق أيّ كلام بسرعة. ثم قال: ما حدث معي هو هذا، إنّه التفتّ في أحد الأيّام أنّ عليّ دفع حقوقٍ شرعيّة، ولكن لم أكن أعلم لأيّ شخص أدْفَعُها، توسّلت بصاحب الزّمان | نفسه، وطلبت من حضرته أن يرشدني. مضت مدّةٌ، ولا خبر،إلى أحد أيّام الجمعة عصراً كنت في الطّريق، تذكّرت حضرة الإمام الحجّة |، وإنّني منذ عدّة أشهر قد رجوت منه أن يرشدني ولم يكن قد أعطاني جواباً،انفجرت وبعينين باكيتين خاطبت حضرته: أنا لا أطلب منكم المال، أريد أن أوصل لكم أموالكم، وتركتموني في بلاد الكفر هذه، ولا ترشدونني؟! والله العظيم والله العظيم، سمعت بأذني صوتاً واضحاً جدّاً، جاء الجواب: «توصله ليد خليفتنا الشّيخ البهجة!»، بعد سماع هذا الصّوت، ذهبت إلى أحد المشايخ بمنطقتنا والّذي كان أصله أفريقيّاً يعيش في الدّانمارك وكان من أهل المعنى، وأخبرته بقضيّتي، فقال لي: إن كان للحجّة | في الأرض خليفةٌ فهو نفس الشّخص الّذي سمعت اسمه. فقلت: أين هو؟ لا أعرفه. فقال: في إيران، ويعيش في قم. فقلت: كيف يمكنني أن أصل إليه؟ فقال: أعطني فرصة يومين أو ثلاثة. وبعد يومين أو ثلاثة أعطاني رقم هذا الشّيخ [أي الشّيخ الأُويسي]. عندما أردت أن آتي إلى إيران، ذهبت إلى ذلك الشّخص الإفريقي فقال لي: انظر! إنّ الشّيخ البهجة هذا يفرق عن الآخرين. هو ليس من الأشخاص الّذين يسمحون أن تُقبّل يده أو أن تقف جواره وتأخذ صورة بهاتفك، أو تتحدّث طويلاً، تجلس أمامه وتنظر في عينيه، إذا أعطاك شيئاً بعينيه أعطاك، وإلا فاسكت! يكمل ذاك الشّخص مرّة أُخرى بهذا القسم: والله العظيم والله العظيم، إن سماحته تعامل معي كما كان قد قال لي ذاك الأفريقي» . فهذه القصّة ليست الشّاهد الوحيد على أعلميّته وأورعيّته بل هي متوافقة مع الأمر الظّاهريّ ممّا ينقله الكثير من العلماء الكبار والتّي تدلّ على أنّ سماحته قد حاز الدّرجات العاليّة في المقامات العلميّة والمعنويّة معاً، ويشهدون له بالعلميّة الفائقة والمتميّزة جدّاً، بل قد صرّح بعضهم بأعلميّة سماحته، وما سيتمّ ذكره هو نبذة منها. لقد كان سماحته من النّاحية العلميّة قويّاً جدّاً، كان دقيقاً ومتعمّقاً جدّاً عند تحقيقه في المسائل، لكنّه لم يكن مستعداً أن يعرف الآخرون ذلك، كان يقول آية الله الافتخاري أحد علماء مجلس الاستفتاء إنّه: «كنت لمدّة ثلاثين عاماً في مجلس استفتاء المرجع الفلاني الكبير، كلّ مسألة كانت تطرح كان يقول: أحضروا كتاب العروة، وإذا لم تُحل كان يقول: أحضروا كتاب الوسيلة، وبعده ...، في النّهاية كان يحلّ المسألة بمراجعة كتاب الجواهر، ولكن سماحة الشّيخ البهجة في هذه العشر أو الخمسة عشر عاماً لم يكن يُرى أنّه يحتاج كتاباً، ونفس سماحته كان يطرح المسألة ويحلّها، وكنّا نرى بعد مراجعة الكتب الفقهيّة أنّ القضيّة نفس ما تفضّل سماحته، ويضيف آية الله الافتخاري(قدّس سرّه): حسب رأيي أنّ سماحته كان في الفتوى أيضاً ملهَماً ولا مثيل له» . وكان يقول آية الله السّيّد محمّد الرّوحانيّ: «إنّ الشّيخ البهجة عالم كبير، [لكن] زهده غطّى علمه!». وفي هذا يقول آية الله الشّيخ المشكيني: «إنّ سماحته من النّاحية العلميّة ذو مرتبة عالية جدّاً ـ في الفقه وفي الأُصول أيضاً ـ بين فقهاء الشّيعة» . وكان يقول آية الله الشيخ محمّد الصادقي الطّهراني(قدّس سرّه) صاحب تفسير الفرقان: «إنّ الشّيخ البهجة هو آية الله العظمى من النّاحية العلميّة ومن ناحية التّقوى أيضاً، إنّ سماحته درّة ثمينةٌ جدّاً، والّذي ينبغي أن يقال: مع أنّ سماحته اشتهر بالتّقوى والعرفان ولكنّ فضله [علميّته] أكثر من تقواه» . ويذكر آية الله الشّيخ الحائري الشّيرازي: «سألت بعض الأعاظم عن الأعلم فقالوا: إنّ الشّيخ البهجة قدرته من النّاحية العلميّة أكثر من البقيّة، لأنّه درس عند أمثال الشّيخ محمّد الحسين الكمباني(قدّس سرّه)، بعد ذلك تحقّقت أيضاً قليلاً ووصلت إلى هذا المعنى، إنّ سماحته أعلى من البقيّة فعلاً من النّاحية العلميّة، على هذا إذا أردنا أن نجد شخصاً جامعاً للعلم والتّقوى معاً ويمكن الاستفادة منه من كلا الجهتين، فهذا منحصرٌ بشخص سماحة الشّيخ البهجة» . ويقول آية الله الرّودباري بحقّ سماحته: «إنّ سماحته هو الكلمة الطّيبة والشّجرة الطّيبة، الّتي صلابتها واستقامة أصلها وجذرها يمكن أن تصون وتحفظ مقام المرجعيّة المنيع والعظيم ،من العواصف والحوادث الموجّهة، ومن تيّارات الانحراف المموّهة الخدّاعة، وقد تحمّلَ عبء هذه الأمانة الكبيرة بهذين الرّكنين العظيمين وهذين العمودين المحكمين، أي الفقاهة والورع، كما كان عليه السّلف الصّالح، أمثال الشّيخ مرتضى الأنصاري (قدّس سرّه) » . ويقول آية الله الشّيخ المسعودي الخميني: «وبالنّسبة للمرجعيّة لقد أعلنت في جامعة المدرّسين أنّ سماحته هو الأرجح» . وينقل آية الله الشّيخ محمد حسين أحمدي الفقيه اليزدي عن آية الله الشّيخ جلال طاهر شمس(قدّس سرّه): «إن آية الله العظمى الشّيخ البهجة قد وصل لأفقٍ بحيث إنّه عندما ينظر في أحكام وأوامر الإسلام فإنّه يعطي الفتوى الّتي ترضي الله سبحانه» . ويضيف أيضاً أنّه لدى التّحدث حول المرجعيّة عند آية الله السّيد بهاء الدّيني قال(قدّس سرّه): «يلزم وجود شخص كالشّيخ البهجة!». ويقول الشّيخ الفقيه اليزدي: «إنّ آية الله بهاء الدّيني قد قال في مقام آخر: إنّ الرّجوع إلى آية الله البهجة هو مورد رضا الله سبحانه» . وكان يقول أحد المراجع الحاليّين في قم المقدّسة: «أنا أقول بأعلميّة الشّيخ البهجة من الآخرين» . وكذلك من بين العلماء القائلين بأعلميّة سماحته هم، آية الله الشّيخ المصباح اليزدي، وآية الله الشّيخ جوادي الآملي، وآية الله الآذري القمّي، وآية الله الشّيخ المشكيني، وآية الله الحائري الشّيرازي و... ومن الجدير بالذّكر أنّ أحد الفضلاء وهو نجل أحد زعماء الشّيعة الكبار قد أتى إلى سماحة آية الله الشّيخ البهجة (البالغ مناه)، وبيّن لسماحته أنّه يريد العدول إلى تقليد سماحته وذلك بعد أن تبيّن له أعلميّة سماحته، هذا على رغم أنّ والد هذا الشّخص كان أحد مراجع التّقليد المشهورين، ولكنه صرّح هذا قائلاً: «بعد أن تبيّن لي أعلميّة سماحتكم استشرت والدي وعدلت عن تقليده إلى تقليدكم، وأريد أن أسألكم عن حكم أعمالي السّابقة». أجل فإن علميّة سماحته لم تكن مخفيّة على الخواصّ، ولكنّ سماحته وبسبب هروبه من الشّهرة وذياع الصّيت أبى إلّا أن يبقى كنزاً مخفيّاً لا يعرفه إلا أهل المعرفة.
إنّ من أبرز سمات وصفات سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه) والّتي لم تكن خافية على كلّ من عاشره أو عاصره، كانت هي الزّهد وبساطة العيش. فلقد كانت رؤية سماحة آية الله البهجة تذكّر الإنسان بالله حقّاً، وتزعج المرء من الدّنيا الدنيّة وكان فعلاً مصداق الرّواية: «جالسوا من يذكّركم الله رؤيته ولقاؤه، فضلاً عن الكلام» لِما يبرُزُ من شخصيّته من الزّهد والتّقوى وبساطة العيش، فقد كان يمشي بين النّاس وروحه معلّقة بالمحلّ الأعلى، وكانت حياته كحياة الأنبياء (عليهم السّلام)، حيث لم يعيروا للدّنيا طرفاً. فقد كان سماحته خفيف المؤونة، خشن المعيشة، ولم يكن يهتمّ بنوعيّة ملبسه أو مأكله. فلم يكن سماحته يصرف من سهم الإمام على الرّغم من أنّ مفاتيحه كانت بيده، وغيرها من كنوز وأموال طائلة كانت تحت تصرّفه، ولكنّه عَبَرَ مياه هذا البحر دون أن تمس رطوبتها قباءه، بل حتّى الهدايا الشّخصيّة وأمواله الخاصّة وما يأتيه من النّذورات الّتي ينذرها الآخرون لسماحته، لم يكن يصرفها على نفسه أو أفراد أسرته، ولم يشتر بها داراً أو عقاراً بل كان يصرفها في وجوه الخير والأمور الشّرعيّة الخاصّة. ولم يكن هذا فقط عندما أتته المرجعيّة بل كان هذا ديدنه أيّام دراسته في النّجف الأشرف، وفي عنفوان شبابه. حيث ينقل العالم الكبير المرحوم السّيد عبّاس الكاشاني(قدّس سرّه): «نقل لي أحد الكبار أنّ سماحته [الشّيخ البهجة] لم يكن يصرف من سهم الإمام المبارك، وقد أكّد هذا الأمر عدّةٌ من الفضلاء» . إنّ سماحته من حين دخوله قم قضى ستّة عشر عاماً من إقامته في تسعة بيوت مستأجرة، والّتي كانت خمسةٌ منها غير مستقلة تماماً لسماحته، وإنّما كان مستأجراً لغرفتين منها فقط ، إلى أن أتى أحد أقاربه والّذي كان له رئاسة في سوق طهران فأراد -وبإشارة من المرجع الكبير السيّد البروجردي (قدّس سرّه)- أن يشتري له بيتاً فوافق سماحته على شراء البيت الأرخص ثمناً من بين البيوت الّتي عرضوها عليه، وكان بيتاً صغيراً جدّاً في حي «أرك»، وكان هذا المنزل محلّ تدريسٍ له ولإقامة صلاة الجماعة لسنوات متمادية، إلى أن اضطر سماحته إلى نقل مكان درسه وصلاة جماعته إلى مسجد الفاطميّة بسبب ضيق البيت وإلحاح الطّلبة والمصلّين . فهذا الرّجل العظيم وصاحب المرجعيّة المرموقة، والّذي كان بيده بيت المال، كان يعيش في هذا البيت القديم والّذي كاد أن يقع سقفه، ولقد كان محلاً لسكناه على مدى عدّة عقود من الزّمن ، ولكن عندما كان يصرّ عليه الآخرون ويترجّونه ويقدّمون استعدادهم التّام للقيام بتقديم بيت أفضل لسماحته كان يقول مجيباً: «إنّ المرحوم السيّد أبو الحسن الأصفهاني (قدّس سرّه) كان يدير أمور المسلمين من غرفة صغيرة، ونفس هذا المنزل يكفينا [ويكفي] ولمراجعاتنا!». إلى أن صار بيته هذا في ضمن المخطّط الجديد للمدينة فتمّ شراؤه وهدمه من قبل بلديّة قم فاضطُرّ سماحته أن ينتقل في السّنوات السّت الأخيرة من عمره المبارك إلى بيت آخر في شارع «إرم». وينقل الشّيخ محمّد هادي الفقهي: «لقد كان زهد سماحته زهداً واقعيّاً، لا تصنّعيّاً، ذهبنا لخدمته في الفترة الأخيرة، لا زالت السّجادة الصّغيرة هي نفسها الّتي كانت موجودة قبل ثلاثين سنة، هذا العظيم هو من أولياء الله الّذين صغرت الدّنيا في عينهم» . وهذا غيض من فيض من زهد سماحته. وأمّا في حرصه على لحظات عمره وكيفيّة الاستفادة منها فهذا ما لم يكن خفيّاً منذ نعومة أظفاره، وكان على عهده بأن لا يهدر آناً واحداً من آنات حياته وأن لا يشغلها بغير طاعة ربّه، حيث يقول أحد طلبة سماحته القدماء والمقرّبين جداً من سماحته، والّذي كان كثيراً ما يتمعّن ويحقّق في أحوال سماحته: «يظهر من طريقة معاشرة سماحته أنّ الوقت ذو قيمة لدى سماحته كثيراً، ولم يكن ليرضى أن يتلف حتّى خمس أو ست دقائق من دون فائدة، على مرّ ثلاثين عاماً الّتي عرفت فيها سماحته لم أكن قد رأيته أبداً قد خرج خلالها ثلاثين ساعة من أجل التّنزّه، مع أنّه كان قد دعي كثيراً ولكنّه لم يكن ليقبل وكان يعتذر». وأحد المواقف الّتي تدلّ على ذلك ما ينقله سماحة الشّيخ علي البهجة نجل سماحة آية الله الشّيخ البهجة (البالغ مناه): «في أحدى سفرات المرحوم الوالد، طلب الشّهيد المطهّري من والدي أن يسافر معه إلى مدينة فريمان مسقط رأس الشّهيد المطهري، حتّى يكونوا معاً هم والمرحوم العلّامة الطّباطبائي (رضوان الله عليه) لمدّة يومين أو ثلاثة أيام، لكن والدي رفض الدّعوة. ربّما بعد ثلاثين سنة من ذاك اليوم، وفي أواخر أيام حياة سماحته، وفي أحد الأيّام الّتي لم يكن المرحوم والدي يمتلك فيها القدرة على الحضور في حرم الإمام الرّضا (عليه السّلام)، كان يزور من داخل السّيّارة مقابل رواق آزادي، فالتفت إليّ وقال: نحن أيضاً في أحد الأيّام رفضنا دعوة الشّيخ المطهّري (رضوان الله عليه) بالذّهاب إلى مدينة فريمان، وكان السّبب أنّه لو كنّا قد قبلنا يومها دعوة الشّيخ لكنّا مجبرين على ترك زيارة الحرم المطهّر للإمام الرّضا (عليه السّلام)، لهذا السّبب رفضت طلب الشّيخ المطهّري رحمة الله عليه». وممّا يجدر الإشارة إليه أنّ سماحته كان يبقى بجوار الإمام الرّضا (عليه السّلام) في مدينة مشهد لمدّة ثلاثة أشهر في العطلة الصّيفيّة، وكان يذهب يومها مرّتين للزيارة، صباحاً ومساءً، ومع ذلك لم يكن لتسمح له نفسه العاشقة لأهل البيت (عليهم السّلام) أن يترك زيارة الإمام الرّضا (عليه السّلام) لثلاثة أيّام فقط. وهذه القضيّة تدلّ على أمرين: الأوّل: شوقه ولهفته للأئمّة الأطهار (عليهم السّلام)، وكان في أثناء وجوده في الحرم يرى نفسه في الجنّة فعلاً. الثّاني: يدلّ على أهميّة الوقت بالنّسبة لديه بأن لا يصرف لحظات عمره إلّا فيما هو الأفضل له، وإلّا فإنّ السّفر لفريمان لم يكن مكروهاً، بل ربّما كان مستحبّاً كونه إجابةً لدعوة المؤمن، لكنّه اختار المستحبّ الّذي هو أعلى درجة، والّذي يعتبر وسيلة لتأدية الواجب، ألا وهو مودّة أهل البيت (عليهم السّلام). وأمّا بالنّسبة إلى كراماته ومقاماته المعنويّة المميّزة فكما كان سماحته يكتم مقاماته العلميّة كذلك كان دأبه في كتمان الأمور المعنويّة والكرامات الّتي منحه الله إيّاها، فكان يحرص على عدم معرفة الآخرين بما يظهر له من كرامات، وهكذا كانت سجيّته في المعرفة الإلهيّة، فرغم كونه متّشحاً برشحات وحالات عرفانيّة استثنائيّة منذ نعومة أظفاره، وامتيازه بمقامات معنويّة عالية، إلا أنّه لم تصدر عنه أيّ حركة أو علامة تنبّىء عن ذلك الحماس والهيام الّذي كان يعيشه. وكان يتكتّم أشدّ الكتمان على الفيوضات المعنويّة الّتي تُسنح له في محضر أساتذته العارفين من العلماء الرّبّانيّين. ولكن كان يكفي أن ينظر المرء إلى ملامح وجهه ليتذكّر الله جلّ وعلا دون تردّد، وينقطع عن هذه الدّنيا الفانيّة ويتوجّه إلى الآخرة الباقية. وفي هذا ينقل آية الله الشّيخ جواد الكربلائي: «إنّ سماحته يتجنّب الاِجتماعات ويتكتّم على معارفه الإلهيّة. حتّى ورد أنّه كان هناك أشخاصٌ يتردّدون مدّةً من الزّمان على سماحته وعلى رغم أنّهم استفادوا كثيراً من سماحته لكن على أثر كتمانه أو عدم تعاطيه معهم بحرارة بدؤوا بعد مدّةٍ يبتعدون عنه. على أيّة حال هو شخصٌ كتومٌ جدّاً خاصّةً فيما يتعلّق بأحواله الشّخصيّة وما أفاض الله تعالى عليه من ألطافه الخاصّة» . وينقل الشّيخ محمد هادي الفقهي: «إنّ سماحته شخص كتوم، كان لدينا أساتذة عندما كنّا نصل لخدمتهم ونطلب منهم بعض المسائل فكانوا لا يرفضون ويبيّنون. أمّا سماحته مع أنّه كان يرى أنّ بعض الأصدقاء يطلبون، ولكن كان عنده حالة بأن لا يتحدّث حول نفسه أبداً، على عكس بعض العلماء الآخرين، على سبيل المثال، آية الله القوچاني وعندما جاء إلى إيران، صار هناك حديث حول بعض المسائل في منزل أحد الأصدقاء، وكان سماحته يجيب، وفي الختام قال: راسلوني، وأنا أعطيكم أجوبة أسئلتكم. العلّامة الطّباطبائي(قدّس سرّه) أيضاً كان كذلك» . أجل فلقد كان سماحته في قمّة الكتمان والابتعاد عن الشّهرة، ولم يكن ذلك إمساكاً من سماحته عن الآخرين بل كان يعمل وفقاً لوظيفته الشّرعية، وفي هذا المضمار ينقل آية الله الشّيخ محمود أمجد أن سماحة آية الله السيّد بهاء الدّيني قد طلب من سماحة آية الله الشّيخ البهجة أن يظهَرَ ويبرز لأنّه أجدر وأليق بذلك، ولكن كان جواب سماحة الشّيخ البهجة: «أنا معذور!». ومن الجدير بالذّكر أنّ سماحته لم يقصّر في بثّ العلوم والمعارف الحقّة ومناهج السّير والسّلوك إلى الله وفق ما خطّه أهل البيت (عليهم السّلام) ولكن قلّ الطّلاب الحقيقيّون للمعرفة الإلهيّة، وإلّا فإنّ كلمة واحدة من توجيهات سماحته تكفي للمسيرِ كاملَ عمر الإنسان وإن كان لألف سنة. وينقل الشّيخ محمد هادي الفقهي: «في إحدى المرّات رأيت عدّة منامات وصار لديّ مشكلة، ذهبت لمحضر العلّامة الطّباطبائي(قدّس سرّه)، وتحدّثت له، ففرح سماحته كثيراً وقال لي: هذا علامة على المسألة الفلانيّة، فعلاً لا تستعجل، تمهّل. وبيّن لي مسائل أخرى. بعد سنة، وأيضاً من نفس تلك المشكلة كنت غير مرتاح أبداً. أحد الأيّام وصلت لدرس آية الله الشّيخ البهجة قبل الجميع. جاء سماحته، لذا اغتنمت الفرصة وقلت لسماحته: شيخنا، حدثت معي هذه المشكلة ماذا أفعل؟ سماحته لم يعتن أبداً، وحتّى لا أغتر بنفسي إلتفت للنّافذة وطرقها وأشار لأبنائه الّذين كانوا في صحن البيت وتحدّث لأحدهم، ثمّ توجّه إليّ وقال: «هذا طبيعيّ، وهو يتعلّق بالمزاج!. ولكن بما أنّني كنت معتقداً بالعلّامة الطّباطبائي وبآية الله البهجة اعتقاداً كاملاً، شعرت بنظري، بأنّ جواب العالمين الكبيرين غير متلائم، وتحيّرت فعلاً، من طرفٍ كنت أرجّح رأي العلّامة الطّباطبائي الّذي كان أعرف بجريان أحوالي، وكنت قد بيّنت جزئيّات المسائل لسماحته، ومن طرف آخر رأي آية الله البهجة، ولكن اللّافت هو هذا، أنّ العلّامة الطّباطبائي بعد سنة قال لي: «هذا شيء طبيعيّ، ويتعلّق بالمزاج!» . وينقل آية الله الشّيخ محمود أمجد: «إنّ آية الله البهجة من مفاخر عصرنا، الأشخاص الّذين يعرفونه، يعلمون أن سماحته في أوج العلم والمعنويّة، أنا أعتقد أنّ سماحته لا نظير له في العلم والمعنويّة، بتعبيرٍ آخر: سماحته مَلَكٌ على الأرض، يجب الاستفادة من وجوده، فسماحته قد استشعر المعنويّة في طفولته، وكان منذ شبابه أهل سيرٍ وسلوك» . وكان يقول آية الله السيّد بهاء الديني(قدّس سرّه) في حقّ سماحته: «إنّ أغنى رجل في العالم من الناحية المعنوية الآن، هو الشيخ البهجة» . ويضيف أية الله الشّيخ محمود أمجد أنّ العلّامة الطباطبائي(قدّس سرّه) كان يصف الشّيخ البهجة قائلاً: «إنّ سماحته العبد الصالح» . وينقل آية الله الشيخ محمّد الصّادقي الطّهراني(قدّس سرّه) صاحب تفسير الفرقان: «من النّاحية المعرفيّة والعمليّة والتّقوى لم يُرَ من سماحته [قد ارتكب] حتّى مكروهاً واحداً أو ترك [عملاً] مستحبّاً واحداً». وعلى الرّغم من أنّه كان صاحب مرجعيّة مرموقة ولكن كانت حياته كأبسط ما يكون ويُتصوّر، وكانت معيشته كأحد الطّلبة العادييّن جدّاً بل أقلّ من ذلك، ولم يكن عنده تكلّف أو رسميّة في التّعامل مع الآخرين، بل لم يكن الغريب ليميّزه عن غيره عندما يدخل عليه في مجلسه. ينقل أحد علماء طهران: «ذهبت في أحد الأيّام إلى منزل آية الله الشّيخ البهجة، طرقت الباب ففتح لي الباب رجل مسنٌّ لا تكلّف في هيئته، فتصوّرت أنّه أحد الخدم في المنزل، فقلت له: لديّ عمل مع آية الله العظمى الشّيخ البهجة، فقال: تفضّل، فقلت: لديّ عمل مع نفس سماحته، فقال: تفضّل، هذا ما هو ميسور لنا! في حين أنّني لم أتوقّع أبداً أنّ هذا الشّخص هو سماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة، وإنّما حسبت أنّ الخادم غير حاضر أن يدخلني لمقابلة سماحته، النّتيجة أنّني رجعت بدون أن أطرح مسألتي على سماحته، فقلت في نفسي: سأذهب إلى المسجد، وسماحته سيأتي أيضاً، فأراه بعد الصّلاة وأطرح مسألتي على سماحته، ولكن عندما شاركت في صلاة الجماعة رأيت أنّ نفس ذلك الشيخ المسنّ قد أتى وهو مرتدٍ زيّ رجال الحوزة، فوصل إلى المحراب وشرع بالصّلاة، وعندما انتهت صلاة الجماعة فسألت شخصاً بجانبي: ألا يأتي سماحة الشّيخ البهجة نفسه للصّلاة؟ فأجابني: هذا هو نفسه آية الله الشّيخ البهجة. فاستغربت كثيراً، إذ أنّه لم يكن قد جعل لنفسه ما يميزه من ناحية الشّمائل الظّاهريّة، وعمل سماحته هذا أشار لي إلى أخلاق النّبي الأكرم (صلى الله عليه و آله)، الّذي لم يكن أحد ليميّزه عن أصحابه الجالسين معه من حيث الظّاهر» . أجل، فقد كان سماحته ذا خلق جميل وكأنّ أخلاق سماحته هي مختصّةٌ فقط بمن اقتفى مسار حياته ومنهجه من أئمّة أهل البيت (عليهم السّلام)، بل كأنّ تلك الأخلاق العالية أصبحت منسيّةً بحيث أنّه لم يكن هناك أحدٌ قدّم له خِدمةً وأخذ أجرته على عمله إلّا وقد أصبح له في قلب هذا العارف الكبير حصّة من الدّعاء بقدر يفوق الخدمة الّتي قدمها لسماحته، وكلّ من كان له تعاملٌ مع سماحته يرى ذلك، بل كان الآخرون يندهشون من الطّبع الجميل والنّادر لدى سماحته بحيث إنّ سلوك سماحته مع الآخرين ليس موجوداً لدى أحد في أيّامنا هذه، وفي هذا السّياق ينقل نجل سماحته: «الشّيء العجيب الّذي رأيته من سماحته كان هذا، أنّه في قضية العمليّة الجراحيّة لعين سماحته في حدود سنة 1422 هـ . ق حيث لم يرض الطّبيب بأن يأخذ المال، لكن سماحته قد أصرّ على إعطائه أجرته، وبعد العمليّة وفي أثناء مراجعة الطّبيب، قال سماحته له: «أيّها السيّد! سواء أخذتم الأجرة أم لم تأخذوها فلا فرق في ذلك؛ أنا سأدعو لكم، كل الأطّباء الّذين كان لهم يد في علاجي طوال حياتي، إلى الآن لم أنسهم!. هذا الكلام من سماحته كان عجيباً جدّاً بالنّسبة لي، حيث إنّ الطّبيب قد أخذ أجرته وذهب، ولكنّ سماحته لم يكن قد نسيه! هكذا كانت أخلاقه». نعم لقد كانت أخلاق سماحته على نحو يتعجّب الآخرون من حلاوة طبع سماحته، حيث يضيف نجل سماحته قضيّةً أخرى: «أذكر أنّه في سنة 1390 أو 1391 هـ . ق، في سفرنا الّذي كان إلى مدينة مشهد المقدّسة استأجرنا غرفةً، اللّيلة بعشرة توامين، وبقينا فيها مدّة عشرين ليلةً، وأعطاه سماحته مائتين وعشرين توماناً يعني أضاف له عشرين توماناً زيادة، حتّى أنّه يوماً ما قد أتى سماحة آية الله السيّد الميلاني لزيارة سماحة والدي في نفس هذا البيت، فتعجّب صاحب الغرفة أنّه كيف يأتي آية لله الميلاني لزيارة هذاالشّيخ، والأمر اللّافت والّذي يُعلِّمُ الآخرين الأخلاق هو هذا،أنّ سماحته لم يكن ينسى اسمَ صاحب هذا البيت وغيره من أصحاب البيوت ممّن استأجر عندهم، في حين أنّه يحتمل أنّ صاحب البيت كان لا يعرف سماحته مطلقاً، بل ربّما إذا رآه لم يكن ليذكره أو يسلّم عليه، وإلى بضع سنوات سابقة، والّتي كانت والدتي تتمكّن فيها من المشي كان يقول لها: «اذهبي واسألي عن أحوالهم!. كنت بعض الأحيان أمزح مع والدي وأقول: على مبنى سماحتكم يجب أن أذهب وأجد أسماء الخبّازين وكلّ الأشخاص الّذين قد قاموا بعمل ما لنا، وأخذوا أُجرتهم، لأسأل عن أحوالهم، كان لدى سماحته روحيّةٌ لطيفة وأخلاقٌ عجيبة» . وإحدى أهمّ الخصائص الأخلاقيّة لدى سماحته أنّه لم يكن يرى نفسه شيئاً، ولم يسمع منه أحدٌ كلمة «أنا» أو «أكون» مطلقاً ولم يسمع منه كلاماً حول مقاماته العلميّة أو الأخلاقيّة، وكذلك لم يقل يوماً كلمة «درسي» ولم يطلق على أحد من طلبته بـ «تلميذي»، وإنّما يعبّر عن الدّرس بالمباحثة وعن تلميذه بالمُباحِث،و ذلك على الرّغم ممّا كان يطفح من جوانب شخصيّته الفذّة.
من جملة الأُمور التي كان سماحته يُوْليها بالغ الأهميّة، هو حضوره المتواصل يوميّاً في الحرم الطّاهر والملكوتي لكريمة أهل البيت السّيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام)، حيث كان دأبه حتّى آخر عمره المبارك ـ الّذي توسّط العقد العاشر ـ أن يتشرّف بعد أداء صلاة الصّبح بزيارتها، ويعتزل في زاوية من زوايا الحرم ليختلي هناك خلوة العاشق، ويقرأ بعض الزّيارات والأدعية، ويؤدّي بعض الصّلوات. وكان شيخنا البهجة(قدّس سرّه) يولي أهمية قصوى لإقامة مجالس العزاء على مصائب أئمة أهل البيت الأطهار (عليهم السّلام) على مدار السّنة وخاصّة على مصاب الإمام الحسين (عليه السّلام) وذلك لأكثر من أربعين عاماً من عمره الشّريف. فبدايةً كان يقيم هذه المجالس في بيته، وبعد أن انتهت إليه المرجعيّة أصبحت تقام في مسجد فاطميّة الّذي كان ـ على الرّغم من صغر مساحته ـ يتميّز بالنّقاء والرّوحانيّة العالية والبساطة. وكان سماحته(قدّس سرّه) يواظب على الحضور في هذا المجلس حتّى في أصعب الظّروف الّتي كانت تتمثّل في سنّه العالية، وفي البرد والحرّ الشّديدين بل حتّى في حالات مرضه، وكان سماحته يتألّم ويتفجّع لمصاب ومظلومية أهل البيت (عليهم السّلام) لا سيما أبو الأحرار سيّد الشّهداء أبو عبد الله الحسين (عليه السّلام)، ويذرف الدّموع، وكان يئنّ أنيناً محزناً بحيث يُبكي من حوله، وكان هذا دأب سماحته(قدّس سرّه) عندما يذهب لزيارة مشهد الإمام الرّضا (عليه السّلام) في العطلة الصّيفيّة بحيث لا يمنعه السّفر عن إقامة مجالس إحياء أمر أهل البيت (عليهم السّلام) أسبوعيّاً، إضافةً لأيّام المناسبات الخاصّة. ينقل أحد الفضلاء: «أنّه في الأيّام الّتي كان آية الله البهجة يعطي في منزله درس أُصول الفقه صباحاً ودرس الفقه عصراً، ويقيم مجالس العزاء أيضاً قريب الظّهر من أيّام الجمعة، دائماً كان يجلس قرب الباب بينما يُجلِسُ كلَّ طلبته في مكانٍ أعلى من مجلسه، وأيضاً في مجالس العزاء يقوم بكامل قامته احتراماً للقادمين ويظهر احتراماً خاصاً للسّادة الأشراف و علماء الدّين» . وينقل أحد طلبة سماحته أنّه وفي أحد مجالس عزاء سيّد الشّهداء (عليه السّلام)، كنت قد أحصيت لسماحته أنّه قد قام وجلس للدّاخلين إلى المجلس أكثر من مائتي مرّة بحيث كان يقوم من مقامه احتراماً حتّى عند دخول الأطفال. ولم تكن سيرة الشيخ المتفجع على مصائب السّادة الأطهار من آل محمّد (عليهم السّلام) بعيش حياة البكاء الشديد أمراً جديداً في جدول الأعمال العبادية لسماحته، بل كان هذا ديدنه منذ نعومة أظفاره، وتشتدّ يوماً بعد يوم لوعة الحزن والأسى على مصائب أهل البيت (عليهم السّلام) لا سيما سيّد الشهداء (عليه السّلام)، بحيث يقول السيد محمّد حسن القاضي الطباطبائي نجل آية الله السيد علي القاضي (قدّس سرّه) أنه لم يَرَ مثلَه في التلهّف والتأوّه على أهل البيت (عليهم السّلام)، فيقول واصفاً مشاهد من حرقة الجَوَى لدى الشيخ البهجة (البالغ مناه) عند حضوره لمجلس الإمام الحسين (عليه السّلام) والّذي كان يقيمه والده آية الله السيد علي القاضي (قدّس سرّه): «ولا يفوتني أن أذكر أنّي لم أرَ أحداً تظهر عليه سماتُ الخضوع والخشوع أثناء قراءة التعزية على أبي عبد الله (عليه السّلام) مثل هذا الشيخ الجليل، ...مطرقاً برأسه إلى الأرض» . ومن الواضح أنّ اهتمامه الشّديد ومواظبته الجادّة على إقامة مجالس العزاء لسيّد الشّهداء (عليه السّلام) وإصراره على حضورها بنفسه كان ناشئاً من شدّة تعلّقه بأهل البيت (عليهم السّلام)، وتمسّكه بالعمل وفق رواياتهم المأثورة الّتي تحثّ مواليهم على إحياء المجالس الّتي تحيا فيها القلوب بذكرهم، وكما كان هذا دأب أُستاذه السيّد القاضي ووصيّته . وكيف لا تحيى القلوب والنّفوس في هذه المجالس الّتي هي محل عناية فائقة منهم صلوات الله عليهم أجمعين؟ وفي ذلك عدّة روايات تدلّ على حضور الأئمّة صلوات الله عليهم أجمعين بأنفسهم في هذه المجالس، فكيف لا يحضرون المجلس الّذي يقيمه وليّهم الصّالح الشّيخ البهجة، حيث كان يوصي الكثير من العلماء الربّانيّين بالحضور في المجالس الّتي يقيمها سماحة الشّيخ البهجة كونها محل نزول الفيوضات والبركات، ومن شواهد ذلك ما ينقله الرّاثي الّذي كان يقرأ في مسجد الفاطميّة بمحضر آية الله الشّيخ البهجة (البالغ مناه)، يقول: «في أحد الأيّام سمعت من مرافقي سماحة الشّيخ قضيّة فأردت سماعها من نفس سماحته فذهبت إليه وقلت لسماحته: أرغب بالتّحدث مع سماحتكم، فقال لي: تعال للمنزل في السّاعة الفلانيّة، فذهبت لمنزل سماحته وقلت لسماحته: لقد سمعت قضيّة من مرافقي سماحتكم وأرغب في أن أتأكّد من صحّتها وأسمعها من سماحتكم، فقال لي سماحته: «نقل لي صديقي الّذي أثق به، أنّه في مجلسنا الّذي أقمناه في اليوم الخامس عشر من شعبان ، كان السيّد جالساً بجوار المحراب وعندما أنهيتَ قراءتك للمدائح والأناشيد وأردت أن تدعو دعاء الختام، قام السيّد وأخذ نعله وأراد الخروج من المسجد، لكن لا أدري ما الّذي حصل حيث بدأت أنت فجأة برثاء السيّدة الزّهراء (عليها السّلام) والنّعي عليها، فعاد السيّد إلى المجلس ثانيةً احتراماً لمجلس عزاء أُمّه وحضر هذا النّعي». يقول الرّاثي قلت لسماحة الشّيخ: هناك الكثير من السّادة يحضرون في مجلسكم، فقال لي سماحته: «لا، لا، السّيد، الإمام الحجّة | كان حاضراً في المجلس!». من هنا كان مجلس العزاء الأسبوعيّ هذا فيه من الحالات المعنويّة ما يدرك ولا يوصف، ولذا فقد كان محفلاً يستهوي قلوب عشّاق أهل البيت والوالهين بحبّهم. وكانوا يأتون من كلّ حدب وصوب، من داخل إيران وخارجها، من شتّى أقطار العالم لكي ينيروا نواظرهم برؤية هذا العبد الصّالح ويحضروا مجلس العزاء الحسيني، حيث تمتزج دموع حزنهم على سيّد الشّهداء بدمع الشّوق للقائهم هذا المرجع العظيم.
وليس بوسع الكلمات وصف صلاته الملكوتيّة أو درك صورتها البهيّة وروحانيّتها ولا بوسع أحد حتّى أولئك المصلّين الّذين كانت صفوفهم تتراصّ إلى حدٍّ تتزاحم فيه أكتافهم فيضطرون إلى شغل ساحة المسجد الخارجيّة، حيث تتّصل صفوفهم بصفوف أولئك الّذين افترشوا أرض الزّقاق المحاذي لمسجد الفاطميّة وهم يستمعون بآذان قلوبهم إلى صوته المنبعث من داخل محرابه وهو يتلو آيات الذّكر الحكيم، أو يردّد أذكار الرّكوع والسّجود والقنوت، وقد غلبت عليه حالة المضطرّ المستجير باستغاثات يقطّعها النّحيب، وكأنّه لا يريد أن ينفتل من لقاء حبيبه. والّتي كان يحضرها الأجلّاء من المؤمنين وذوي الشّأن من علماء الحوزة العلميّة، وكان سماحته لسنوات متماديّة يؤمّ المصلّين في الصّلوات الخمس لكنّه في سنيّ عمره الأخيرة، ونظراً لشيخوخته اقتصر حضوره للجماعة على صلاتي الظّهر والعصر فقط. ويصعب على خيال البيان أن يترجم حالة صفوف المصلّين المتزاحمة حينما يخطف لبّهم نشيج آهة ذلك الشّيخ وهو في عروج صلاته، ولا يمكن للقلم أن يطال وصف هيام الوالهين بحبّ ذلك العزيز. بل كان كبار العلماء يقصدون من أقصى المدينة كي يفوزوا بإدراك فضل الجماعة بإمامة سماحته حتّى يحظوا ببركات وآثار صلاته. فلقد كانت صلاة سماحته بمنزلة المدرسة الأخلاقيّة لعدد كبير لا يحصى من المؤمنين، ففي هذه الصّلاة وبدون أن يتحدّث سماحته مع كلّ شخص على حدة، كان يؤثّر بالمصلّين قلبيّاً وعمليّاً، فيرتقي المؤتمّون بذلك معنويّاً، وكانت الصّلاة خلف سماحته معراجاً حقيقيّاً لهم. فصلاة سماحته كانت تشير لدرجة عالية لدى سماحته من المعرفة الإلهيّة والقرب من ساحة القدس، وأنّ هناك اعتقاداً وإيماناً حقيقييّن وراء تلك الأفعال، والحالات الظّاهرية، وكأنّه ينظر بعين اليقين إلى الدّنيا والآخرة، فبدنه يعيش بين النّاس ولكن روحه معلّقة بالملكوت الأعلى، فطالما كانت صلاة الجماعة خلف سماحته مورد عناية أولياء الله وعباده الصّالحين، منذ اقتداء السيّد القاضي بسماحته في النّجف الأشرف إلى اقتداء السيّد الطّباطبائي وبقيّة العلماء الكبار في قم المقدّسة بسماحته تتبيّن العناية الخاصّة الّتي كانوا يعطونها للصّلاة خلف سماحته والحضور في معراجه. وينقل السّيد الفهري نجل آية الله السّيد أحمد الفهريّ (قدّس سرّه): «إنّ والدي آية الله السيّد أحمد الفهري في كلّ مرّة يتشرّف بالذّهاب إلى قم، بأيّ نحو كان، كان يوجِب على نفسه الحضور للصلاة خلف سماحة الشّيخ البهجة، حتّى إذا كان لديه ضيف، كان يوجب ذلك على نفسه، ويتقيّد بهذا العمل، ليس من أجل أن يلتقي بسماحته، بل إنّ نفس الحضور في الصّلاة ومجلس العزاء الّذي يقيمه سماحة الشّيخ البهجة، وكلّ ما هو مرتبط بسماحة الشّيخ البهجة، بالنّسبة له هو أمر مهمّ جدّاً» . وكان آية الله السيّد أحمد الفهري (قدّس سرّه) يقول حول صلاة الشّيخ البهجة (البالغ مناه): «قلّما يحضر شخصٌ صلاة الجماعة خلف سماحة آية الله الشّيخ البهجة ولا يشعر مع دخوله في الصّلاة أنّه قد انقطع بكلّ وجوده عن الدّنيا وما فيها، وتوجّه إلى المبدأ الأعلى» .
نعم، فلقد كانت رؤية وجه سماحته تذكّر المرء بالله دون أن يتحدّث معه، ولم يكن هذا حال النّاس العاديين فقط، بل هو حالُ العلماء الربّانيين الّذين كان النّاس يذكرون الله برؤيتهم، ولكن نفس هؤلاء الربّانيين كان لهم نحو تعلّق بالنّظر إلى وجه سماحته المضيء، بحيث كانوا يذكرون الله برؤية سماحته بدرجات عالية من ذكر الله، حيث ينقل الأُستاذ السيِّد رضا الخسروشاهي: «أذكر أنّه في أحد الأيام قد جاء العلّامة محمّد تقي الجعفري(قدّس سرّه) للقاء سماحة الشّيخ البهجة(قدّس سرّه)، وبعد اللقاء وفي أثناء الخروج من منزل سماحته رآني في طريقه وقال: «جاء في الرّوايات أنّه: إذا لم يلتق الشّخص بالعالم كلّ أربعين يوم، مات قلبه»، وكذلك: «زيارة العلماء أحبّ إليّ من سبعين طوافاً حول البيت سماحة الشّيخ البهجة هو المصداق الأبرز لهؤلاء العلماء [المذكورين في الرّواية]» . هذا على الرّغم من أنّ العلّامة الجعفري(قدّس سرّه) كان من كبار العلماء ومن فحول حوزة النّجف الأشرف المقدّسة، ولكنّه كان يلتمس ذكر الله من رؤية سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه)، ويضيف السيّد الخسروشاهي أنّه قد قال له العلّامة الجعفري (قدّس سرّه): «نفس رؤية سماحته وملاقاته هو موعظة، من رأسه إلى قدميه هو موعظة ومنبّه. وكلّما أزور سماحته يبقى أثر ملاقاته في نفسي لعدّة أيّام!» . ويقول أحد العلماء والّذي كان عمره خمسة وثمانين عاماً: «لم أذهب في حياتي إلى منزل أيّ مرجع، ولكنّ سماحته وحده هو مصداق ذاك الحديث «جالسوا من تذكّركم الله رؤيته ولقاؤه الّذي لقاؤه يجعل الإنسان إلهيّاً ويزعجه من الدّنيا، حياة سماحته مهدّئ للعلماء الزّاهدين». وينقل آية الله الرّودباري: «أنّه في إحدى اللّيالي شاركت في حفلّ بذكرى مولد الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السّلام)، والّذي أقيم في منزل المرحوم الحاج الشّيخ مرتضى الأشرفي، في أثناء المجلس انتبهت أنّي جالس بجوار شخص ذي حريمٍ خاصّ، وليس عالم دينٍ عاديّاً، وعرفت خلال تلك اللّحظات القليلة من الوقار والتّأدّب والنّزاهة الخاصّة الّتي تظهر من طريقة جلوسه وتصرّفاته أنّه شخصٌ عظيم، والّذي من شدّة تواضعه وإخلاصه كان من المفترض أن يجلس بين العظماء والعلماء، لكنّه قَبِل أن يجلس في فناء الدّار بين عموم الطلّاب، سألت أحد الطلّاب عن سماحته، فقال: إنّه سماحة آية الله الشّيخ البهجة. من تلك الّلحظة إلى آخر المجلس، بل من تلك الّليلة إلى تاريخ اليوم، أي قبل خمسين عاماً، تعلّقت وانجذبت إلى هذا العالم الربّاني، العبد الصّالح، وصاحب النّفس الزكيّة، الّذي هو بحقٍّ حجّة الحقّ | وحجّة على جميع الحجج » . ينقل نجل سماحة الشّيخ البهجة أنّ آية الله العلّامة الجعفري (قدّس سرّه) قد قال له: «اترك جميع أعمالك وتعال اخدم هذا الشّيخ، أنت الآن عقلك لا يصل ... ! أقول لك: أنت الّذي تقول: إنّك درست كثيراً، عقلك لا يصل! فكيف بالآخرين؟! ولكنّي أعرفه جيّداً، لقد عرفت سماحته بالنّجف، لا يفكّر بحياته، أنا أقول لك دع جميع أعمالك وتعال اخدم سماحته، اكتب كلّ ما يقول، سجّل كلّ ما يقول، حتّى لو كنت ترى أنّ كلامه فارغٌ، اكتبه، كن أميناً، أنا رأيت قم، رأيت مشهد، رأيت طهران، رأيت إيران، رأيت النّجف، رأيت الشّيعة، رأيت السنّة، هذا الوحيد المتّبقي [من سلسلة الأولياء]، عندما يأخذونه منك حينها تفهم! الآن لن تفهم ولن يدعك تفهم! هذه المسألة كانت عجيبة من العلّامة الجعفري، حيث إنّه نبّه على هذه النّكتة بأنّه «لن يدعك تفهم»، وقال حقّاً فعلاً، كان سماحته مشرفاً جدّاً على فهمنا وشعورنا!». وينقل آية الله الشيخ المصباح اليزدي: «و كنت أزوره تقريباً كلّ يومٍ في الطّريق وفي الحرم أيضاً. ملامح وجهه النّورانيّة كانت تجذب كلّ من ينظر إليه، وطريقة جلوسه وقيامه وحركاته وسكناته كلّها كانت تجذب النّاظرين، وكانت تُظهر لهم كيف أنّه غارقٌ في فضاءٍ معنويّ خاصٍّ به، وأنّ فكرهُ منصرفٌ إلى أمورٍ أعلى وأسمى من الأمور الّتي يفكّر بها الآخرون. إضافةً إلى هذه الصّفات، نظراتُه النافذة واعتناءاته الخاصّة الّتي كانت تنفذ إلى بعض الأشخاص وتجذب روحهم كالمغناطيس وتؤثّر فيها» . وينقل آية الله الشّيخ المسعودي الخميني: «طبعاً، مجرّد رؤية سماحته تُحيي الإنسان. كان سماحته كتوماً جدّاً بل لم يكن له نظيرٌ في الكتمان، فمع أنّه لديه أمور ومطالب معنوية كثيرة لكنّه كان كتوماً جدّاً عليها ولم يكن من السّهل استخراجها منه. لقد قلّ مثيل سماحة الشّيخ في عصرنا هذا، لكن للأسف هكذا شخصيّات عندما ترتحل عن الدّنيا يقولون عنها: كانوا كذا من النّاحية العلمية وكذا من النّاحية المعنويّة» . ويقول آية الله الشّيخ جوادي الآملي: «أنتم انظروا إلى سماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة دامت بركاته العالية، كلّ حياته هي درس أخلاق، ذهاب ومجيء سماحته، تصرّفات سماحته جميعها درس أخلاق، من جانب هو يدرّس مثل بقيّة الفقهاء، ومن جانب آخر يصلّي مثل الأئمّة (عليهم السّلام)!» . ويقول أحد كبار المجتهدين: «لا يمكن أن نقول: إنّ سماحته شخصٌ مُتَّقٍ، بل إنّ سماحته عين التّقوى، وتَجَسُّدُها» .
وأمّا لدى الحديث حول كراماته الّتي أصبحت أشهر من نار على عَلَمٍ ولا تخفى على البعيد فضلاً عن القريب، هذا على رغم شدّة تكتّمه وحرصه على عدم إظهار شيء منها، لكن ما طفح منها ليست إلا غيضاً من فيض كراماته الباهرة فهنيئاً لأرباب النّعم، وممّا يدلّ على كتمانه هو كلام بعض معاصريه من العلماء والأفاضل في حقّه، وفي هذا ينقل آية الله الشّيخ المصباح اليزدي: «من صفات سماحته أيضاً أنّه كان شخصاً كتوماً جدّاً فيما يتعلّق بإظهار مقاماته المعنويّة ونادراً ما كان يقوم بعملٍ أو يقول شيئاً يدلّ على أنّه قد أتى بأمرٍ أو علمٍ خارقٍ للطّبيعة، لكنّ المقرّبين منه على طول السّنين والعشرة كانوا يواجهون من حين إلى آخر بعض الأشياء الّتي تجزم بأنّ لسماحته قدراتٍ تفوق قدرات الآخرين العاديّة» . فما كان يظهر من كرامات سماحته لم يكن من باب الإشارة إلى ذات الكرامة، وإنّما الهدف كان أسمى من المسبَّبِ، حيث إنّ هداية الآخرين في منهج عالم ربّاني كسماحة الشّيخ البهجة هي هدفٌ سامٍ، بل غاية مثلى، ولذا كان يهدف من إبراز كرامة ما -لو أبرزها- إلى إنقاذ متحيّر أو فكّ أسر مقيَّد بالأغلال الدّنيويّة أو غيرها من الأهداف النبيلة التّي تنتظر من مثل سماحته، وكان سماحته يقول: إن أصحاب الكرامات من العلماء الماضين عندما كانوا يظهرون الكرامات ما كانوا يظهرونها لأجل دعوة الآخرين لأنفسهم، وإنّما كانوا يظهرونها لأجل دواعٍ إلهيّة. وهذا القليل ممّا سوف يُذكر ليس شيئاً بالنّسبة لسماحته، بل إنّ الله جلّ وعلا يكسو عبده المؤمن من الحلل ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وما تمّ نقله هو المأخوذ من الثّقات من رجال الدّين والعلماء الّذين عاصروا سماحته. وهناك كرامة ينقلها آية الله الشّيخ المصباح اليزدي: «قال لي أحد الأصدقاء كنّا على أعتاب شهر رمضان المبارك وكانت زوجتي حاملاً، وكنت عازماً على السّفر لكن ذهبت قبل ذلك لزيارة سماحة الشّيخ من أجل أن أودعه وأسأله الدّعاء، فدعا لي وقال: «سوف يرزقك الله ولداً في هذا الشّهر الفضيل وسمِّهِ محمد حسن!. مع أنّه لم يكن سماحته يعلم بشأن حمل زوجتي. على أيّة حال، في ليلة النّصف من شهر رمضان المبارك وهي ليلة ولادة الإمام الحسن (عليه السّلام) وُلد الصّبي وسمّيته حسن» . وقصّة أُخرى ينقلها الشّيخ علي نجل سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه): «في أحدالأيّام أتاني أحد الفضلاء وقال لي: وَلَدَت ابنتي طفلاً ونريد الذّهاب لمحضر سماحة الشّيخ البهجة ليؤذّن ويقيم في أُذنه، ويسميّه. اعتذرت وقلت: سماحته ليس عنده مقدرة على القيام بمثل هذه الأعمال بعد. فقال: هذا المورد لديه حالة خاصّة، حيث إنّه أولاً: كان سماحته قد عقد بيني وبين أمّها، ثانياً: أيضاً لما وُلِدت ابنتي فإنّ سماحته قد أذّن وأقام في أذنها ومنحها البركة، وإلى سنوات كان يسأل عن أحوالها بالاسم، وأحياناً كان يعطيني شيئاً من المال لأشتري لها شيئاً، وعندما وصلت لسنّ الزواج كان سماحته قد عقد لها بنفسه، وأيضاً قد أذّن وأقام لابنتها الأولى الّتي وُلِدت منذ ثماني سنوات، والآن ولدت مولودها الثّاني وتتمنّى أيضاً أن يؤذِّن سماحته ويقيم في أُذنه ويسمّي هذا المولود لها. فقلت: خذ وكالة من ابنتك، وسماحته سيدعو للمولود ويسمّيه، وغير هذا، لا يمكن لسماحته. بعد أسبوع جاء وقال: لقد أخذت إجازة من ابنتي بصعوبة. في ذاك اليوم حيث كان والدي قد رجع من المسجد، طلبت من سماحته في ممرّ المنزل أن يجلس على الكرسي ويلبّي حاجة ذاك الشخص، وذهبت أنا لعمل آخر. بعد دقائق أتيت حتّى أساعد والدي وأرافقه إلى حجرته، رأيته يشير بيده ويقول: انظر الآن، إذا تحبّون وترون الصّلاح قولوا له أن يسمّيها زينب! ثم قال لي: أعطوا شيئاً للبركة [أي للرّجل]. في مثل هذه الموارد كان سماحته يعطي خمسمائة أو ألف تومان ويقول: اشترِ سكر نبات وأعطه للطّفل. دخلت مع سماحته إلى داخل البيت، وعندما رجعت لأعطي مبلغ البركة لذاك الشّخص قال: أمر عجيب جداً! قلت: ماذا حصل؟ قال: إنّ سماحته قال بأن نسميها زينب! قلت: الأسماء الّتي يختارها سماحته هي زينب وفاطمة وزهراء وأمثال ذلك، سماحته لا يختار الأسماء الجديدة الحديثة. فقال: لا أقصد هذا، أنا بالأساس لم أقل شيئاً لسماحته! فقلت: إذن لماذا ألححت كثيراً عندما أتيت، ولم تقل شيئاً؟ فقال: إنّ سماحته من لحظة مجيئه بدأ يتكلّم وأنا كنت أصغي إليه، جميع حواسّي كانت معه، ونسيت مسألتي والسّبب الّذي جئت من أجله، وعندما أوقفته أنت، قال سماحته لي: سمِّها زينب، وأنا لم أكن قد قلت شيئاً! قلت: يعني أنّك لم تحدّثه حول ابنتك وولدها أنّه ذكر أم أنثى، لم تقل شيئاً؟ فقال: لا! [يضيف نجل سماحته قائلاً]: وأنا بسبب أنّني دائماً ما أفكر بطريقة فلسفيّة وذهني لا يتقبّل فوراً، قلت لنفسي ربّما عندما أجلستُ والدي قد قلت شيئاً لوالدي، ولكنّي أجبت نفسي أنّني متيقنٌ بأنّني لا أعلم أنّ المولود ذكرٌ أم أنثى، وعلى أية حال ودّعت الرّجل وانصرف. بعد أن رجع والدي من المسجد أيضاً كان يقرأ التّعقيبات في الطّريق، وأيضاً في المنزل بحدود ربع ساعة كان مشغولاً بالتّعقيبات، بعد انتهاء التّعقيبات، قلت لسماحته: لقد قلتم لفلان أن يسمّي المولود زينب؟ فقال: بلى؟ ممّا يجدر ذكره أن سماحته إذا كان في حالة التوجّه فإذا سألتُه سؤالاً لا يسمع السّؤال، ولذا كان يقول: بلى؟ ومع هذه الكلمة يخرج من ذاك الحال. فكنت أكرر السّؤال على سماحته مجدداً. في هذا المورد أيضاً بعد أن أعدتُّ السّؤال أجاب سماحته: بلى، زينب! زينب! كرّر هذا الاسم مرّتين. فقلت: إذا كان أيضاً ذكراً، يسمّيه زينب؟ فقال سماحته: ماذا يعني؟ فقلت: ذاك المولود، إذا كان ذكراً، أيضاً يسمّونه زينب؟ فنظر سماحته إليّ وقال: ماذا تقول؟ قلت: ذاك الشّخص لم يقل لكم ماذا يريد ولماذا أتى، وأنّ مولوده ذكرٌ أم أنثى. فأنتم من أين قلتم له أن يسمّي مولوده بزينب؟ فقال سماحته: ربّما أنّك رأيت حلماً! قلت: أي حلمٍ رأيت؟ نفس هذه اللّحظة سألتكم، فقلتم بلى! فقال سماحته مرّتين: نعم أعلم، ولكن يحتمل أنّك رأيت حلماً! وقال ثالثةً: افرض أنّك رأيت حلماً! فقلت: هل تهزأ بي؟ تفضّلوا من أين قلتم هذا الكلام؟ فقال وهو بحالة خاصّة وكأنّه يطلب الشّفقة: انظر، جميع هذه الأعمال، بقيت أمامي مدّةً طويلة، الآن قد أتيت تسألني بحيث لا يُعرَفُ ما هو قصدك، وما الّذي يفيدك، اذهب لعملك!» . وينقل نجل حجّة الإسلام والمسلمين السيّد الشريف السّبزواري: «كنت في زمن التّحصيل مشغولاً بالدّراسة في طهران، كنت أتشرّف إلى قم لأجل الزّيارة أحياناً، وطبق توصيات المرحوم والدي ـ الّذي كان يقول: في كلّ مرّة تذهب إلى قم اذهب إلى آية الله الشّيخ البهجة أيضاً ـ ذهبت إلى سماحته وتشرّفت بلقائه. في أحد الأيام كشف والدي الغطاء عن علّة توصيته الكثيرة بهذا فقال: في أحد الأيّام كنت جالساً في «مسجد بالاسر» الواقع في الحرم المطهّر للسيّدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام)، فأشرقت عيناي بجمال الإمام وليّ العصر |، ولكن خَجَلي مِنَ الحضور وعظمة الإمام (عليه السّلام) كانا مانِعَيْنِ لي من أن أصل لمحضره سلام الله عليه كالعاشق الّذي وصل إلى معشوقه بعد أمدٍ طويل، ولكن بعد لحظات رأيت أنّ آية الله البهجة قد جلس في نفس المكان والنّقطة الّتي رأيت فيها الإمام (عليه السّلام) بالضّبط. والدي كان يعلم أنّ هذا اللّقاء أحد دلائل عظمة سماحة الشّيخ، بل ارتباط ذاك الفقيه العظيم الشّأن بالإمام وليّ العصر |. يقول أيضاً: بعد وفاة والدي رأيت مكتوباً في وصيّته: الكتب الّتي قد اشتريتها تكون تحت تصرّف الإمام الحجّة عجّل الله تعالى فرجه، ولو من خلال شخص يلتقي بحضرته | دون واسطة، (يُحتمل) أنّه هو الشّيخ محمّد تقي البهجة حشرني الله معه وألتمس منه الدّعاء، وكان قد كتب كلمة (يحتمل) بين قوسين» . يقول نجل المرجع الكبير آية الله الحاجّ حسين القمّي (قدّس سرّه) في حقّ سماحته: «لقد سألت الشّيخ القوچاني: هل الشّيخ محمّد تقي [البهجة] يقدر على التّكلّم مع الأموات؟ فقال: هذا بالنّسبة له كأكل الزّبيب» . وينقل آية الله الشّيخ علي أكبر المسعودي الخميني الأمين العام لحرم السيّدة المعصومة (عليها السّلام): «في أحد الأيّام تفقّدتّ القبّة من الدّاخل مع أحد الأشخاص، فرأيت أنّها قد تشقّقت وقسم منها أصبح منتفخاً، فقلت لذاك الشّخص: ألا يمكن إصلاح ذاك؟ فقال: كلفتها نحو أربعة مليارات تومان وتستغرق مدّة أربع سنوات، فقلت: لا نملك المال ولا العمر بيدي. مرّت مدّةٌ، ذهبت لمحضر آية الله الشّيخ البهجة حتّى أسلم لسماحته بعض الحقوق الشّرعيّة، بمجرّد أن جلسنا وبدون أن أقول شيئاً، قال سماحته: هذه القبّة خربة، متشققّة، لماذا لا تصلحونها؟ فتعجبّت من قول سماحته، لأنّي كنت أنا قد رأيتها من قرب، لكن سماحته من أين علم؟ بعد لحظات قال: الله يوصل تكلفتها! قلت: إن شاء الله. لحظات أُخرى قال سماحته: الله يعطي العمر أيضاً! فقلت: على عيني. فنادى آية الله الشّيخ البهجة ولده الشيخ عليّاً قائلاً: «تعال يا سيد علي! هات خمسة ملايين تومان لأجل القبّة، قلت: تحتاج لأربعة مليارات تومان! تحتاج مائتين وأربعين كيلو غراماً من الذّهب! فقال سماحته: إنّها تصلح! مرّت بضعة أيّام راجَعَنا نجلُهُ الشّيخ علي وقال: إن والده يقول: لماذا لم تبدؤوا؟ إنّها تصلح! ومرّة أخرى أمر سماحته بدفع عشرة ملايين تومان أخرى وأعطانا إيّاها الشّيخ علي، ولكن بقيتُ متحيّراً ماذا أفعل، لكن كان في ذهني أنّ ما يقوله سماحته هو شيء آخر، إلى ما بعد شهر أو شهرين، كنت في مكتبي وأنا قلق جدّاً، من جهة كلام الشّيخ البهجة الذي كنت أعلم أنّه لا يتكلّم دون نظر ثاقب وحكمة، ومن جهةٍ لا نملك المال الكافي، فجأة رنّ هاتف مكتبي وكان المتّصل يقول: لقد جاء شخص يريد شراء المبنى التّجاري التّابع للحرم، والّذي يقع في طهران، وكان هذا على رغم مرور زمن طويل ولم يتقدّم أحد لشرائه، واشتراه من الأمانة العامّة للحرم بمبلغ ثمانمائة مليون توماناً فاتّصلت برئيس الجمهورية، وقلت له: إنّنا نريد شراء ذهبٍ بقيمة منخفضة لأجل قبّة السيّدة المعصومة (عليها السّلام)، وهو بدوره أحالني إلى رئيس البنك المركزي، وبهذه الثمانمائة مليون اشترينا مائتين وأربعين كيلو غراماً من الذّهب وبشكل لا يصدّق، تمّ العمل من إصلاح وتذهيب قبّة السيّدة المعصومة (عليها السّلام)، بل زاد كميّة من الذّهب تمّ فيها تجديد التّذهيب في إيوان الصّحن القديم، والّذي كان قد مرّ عليه زمن طويل وكان قد تغيّر لونه، وكذلك إضافةً إلى تذهيب منارة السّاعة في الحرم والمقابلة للمدرسة الفيضيّة». وينقل حجّة الإسلام والمسلمين علم الهدى: «كان يقول أحد الطّلاب: إنّه قبل سنوات أردت الذّهاب إلى جيلان لأجل التّبليغ، هيّأت مصارف العيال ولكن لم أكن أملك أجرة الطّريق، لجأت لزيارة كريمة أهل البيت (عليهم السّلام) السيّدة المعصومة، وصلت وشكوت لها ألم قلبي، أنّه نحن كلّ وجودنا باختيار أهل البيت (عليهم السّلام)، ونريد أن نبلّغ شريعة جدِّكم ولكن لا نملك أجرة الطّريق، بالنّهاية بعد الزّيارة توجّهت للصّلاة خلف سماحة آية الله الشّيخ البهجة، وبعد انتهاء صلاة الظّهر والعصر، عندما أراد سماحته أن يذهب، فجأةً أشار إليّ حيث كنت أجلس في الصّفّ الثّاني، ظننت أنّ سماحته لديه عمل مع غيري، مرّةً أخرى أشار إليّ وقال: أشير إليك! فقمت ووصلت إلى سماحته، فقال: تعال معي! ذهبنا مع عدّة من الأشخاص إلى أن وصلنا إلى باب منزل سماحته، فقال سماحته: قف هنا حتّى أرجع. فدخل سماحته إلى المنزل، وبعد دقائق قصيرة رجع، وأعطاني مبلغ مائتي ألف تومان (الّتي كانت بذاك الزّمن مبلغاً كبيراً جداً)، فقلت: ماذا أفعل؟ فقال سماحته: ألم تطلب المال؟ تذكّرت القضيّة وقلت: هذا المبلغ كبير، فقال سماحته: لا، هناك أشخاص آخرون محتاجون، تؤمِّنهُم أيضاً. على أيّة حال ودّعت سماحته وتحرّكت إلى طهران، في شارع «چراغ گاز، حيث تنطلق حافلات جيلان من هناك، رأيت عدداً من الأصدقاء أيضاً يريدون الذّهاب إلى جيلان مِنْ أجل التّبليغ، ولكن لا يملكون المال، قلت لهم: لا تقلقوا، وصل المال، في البداية ذهبنا وتناولنا طعام الغداء وبعدها صعدنا الحافلة وبمجرّد وصولنا إلى المنطقة نفدت المائتا ألف تومان أيضاً» . وينقل السّيد زاهدي هذه القضيّة: «أحد الفضلاء في الحوزة العلميّة في قم المقدّسة واسمه السيّد ميرزا يوسف من أهل مدينة أرومية والمعروف من أغلب طلبة أرومية قد قال لي: في أوائل مدّةِ الدّراسة حيث كان لي سنة أو سنتان في قم المقدّسة، ابتليت بألم في عيني بحيث ظهرت نقطة عمياء في عيني، وكنت أرى فقط أمامي ولا أرى طرفي اليمين واليسار، ومرّة بعد مرّة ازداد هذا الألم بحيث إنّ المتخصّصين في قم عجزوا عن علاجي، وأحالوني إلى طهران، ذهبت إلى طهران وهناك وبعد أن عاين وفحص الطّبيب المتخصّص عيني، أعطاني إبرةً وتحسّنت عيني، ولكن بعد شهر أو شهرين عاد المرض إليّ، وذهبت إلى نفس الطّبيب وأعطاني إبرة وتحّسنت، وبعد أسبوعين أو ثلاثة عاد الألم مجدّداً وكان أشدّ من السّابق، فراجعت الطّبيب مرّة أخرى وتحسّنت على أثر الإبرة، ولكن عاد الألم بشدّة بعد أيّام، ولم يستطع ذاك الطّبيب أن يفعل شيئاً. الحاصل أنّهم شكّلوا لجنة أطباء من أجْلي، وبعد المعاينة والفحص اللّازم أعطوني جواباً أنّ هذا المرض غير قابل للعلاج، وأنّ هذه العين ستعمى، وقالوا إنّ هذا المرض غير قابل للعلاج، وحتّى المتّخصّصون في البلاد الأخرى لا يتمكّنون من علاج هذا المرض! لذلك يئست ورجعت إلى قم وأنا غير مرتاح، وصلّيت صلاة الجماعة خلف سماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة، بعد الصلاة رافقت سماحته إلى باب منزله إلى أن سأل جميع المرافقين أسئلتهم لسماحته وانصرفوا، في هذه الأثناء الْتَفَتَ سماحته أن لديّ سؤالاً، فقال: تفضّل، فقلت لسماحته ما حصل معي وأنا في ضيق وعسر، الخلاصة أنّ الأطباء قد يئسوا من علاجي! فعندها تبسّم سماحته وقال: ضع يديك على عينيك بعد الصّلوات اليوميّة واقرأ آية الكرسي وقل بعدها: «اللهم احفظ حدَقَتَيَّ بحقّ حدَقَتَي عليّ بن أبي طالب (عليه السّلام)». يقول السيّد ميرزا يوسف: عملت طبق توصية سماحته لمدّة ستّة أو سبعة أيّام وتحسّنت عيناي بشكل كامل، والآن وبعد اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة سنة من تلك الحادثة لا أجد أثراً للمرض في نفسي مع أنّني أدرس وأبحث في اللّيل والنّهار» . وينقل أحد أساتذة الحوزة عن أُستاذه في الأخلاق أنّه قال له: كلّما ذهبت إلى العرفاء كن مواظباً لأنّهم يرون باطنك. ونقل على سبيل المثال: «إنّ آية الله الشّيخ جواداً الكربلائيّ قد حضر عند آية الله الشّيخ البهجة فقال سماحته له: هل تريد أن أُخبرك ماذا فعلت من أول عمرك إلى الآن وماذا ستفعل مستقبلاً؟ أعرف جميع أعمالك» . وحول اطّلاع شيخ السّالكين الشّيخ البهجة على الأسرار وخفايا الأُمور يقول أحد أساتذة الأخلاق: «ينقل أحد طلبتنا: كنت قد جمعت مبلغاً من المال، وكلّ مُدّةٍ كنت أطّلع عليها، أحد الأيّام رأيت أنّها صارت كثيرة، فلذلك وضعتها في حقيبة، بعد عدّة أيّام زرت آية الله العظمى الشّيخ البهجة: بمجرد وصولي إلى سماحته بدأ يقول لي: بلى، لقد أسَرَتنا الدّنيا، خدعتنا ولا تتركنا، نجمع أموالنا ونحسبها، ونفرح لزيادتها، ثم نجعلها في الصّندوق!». بلى، كأنّ سماحته قد رأى جميع ما قمت به في الخلوة، وتفضّل علي بالتّنبيه اللّائق والمناسب» . يقول أحد مدرسي الطّلبة الأجانب في حوزة قم المقدّسة: إنّه نقل له أحد الطّلبة الأجانب: «هناك طالبة من أندونيسيا قد جاءت جديداً إلى مدينة قم المقدّسة، وبدأت بدراسة المعارف الإسلاميّة، تقول: قبل المجيء إلى إيران رأيت في عالم الرّؤيا شخصاً باسم الشّيخ البهجة يتكلّم معي، وقد تأثّرت بسماحته كثيراً وانجذبت إلى شخصيّته، وكان هذا في حين أنّني لم أكن قد سمعت سابقاً باسم سماحته، ولم أكن قد رأيت سماحته، ولكن بمجرّد أن رأيت هذه الشّخصيّة العظيمة في الرّؤيا صارت لديّ رغبة بالمجيء إلى إيران وأن ألتقي بسماحته، بالنّهاية وبعد سعي حثيث وفّقت للمجيء إلى إيران، عندما أتيت إلى قم، ولأنّي مشتاقة للقاء سماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة ذهبت إلى مسجد سماحته حتّى أرى سماحته، وأشارك في صلاة الجماعة خلفه، عندما رأيته توجّهت إلى أنّ جميع الأوصاف الظّاهريّة لسماحته مطابقة للشّخص الّذي قد رأيته في الرّؤيا. وبعد انتهاء الصّلاة تشرّفت هذه الطّالبة الأندونيسيّة ـ الّتي أتت إلى قم المقدّسة مِنْ أجْل الدّراسة ـ بالحضور لدى سماحته، وسماحته مع أنّه قلّما يتكلّم مع أحد، لكنّه قد قال لها بعض الكلمات» . «في أحد الأيام جاء إلى محضر سماحة الشّيخ أحد كبار المسؤولين الأمنيّين في إيران برفقة عدّة أشخاص مسؤولين، وجلسوا في الحجرة ينتظرون سماحته، عندما دخل سماحته وجّه سؤالاً للمسؤول الأمني الكبير: هل ما زلت مرتبطاً بذاك المكان؟ فأجاب المرافقون: هو في طهران يشغل المنصب الفلاني، فكرّر سماحته السّؤال، فأجاب المرافقون ثانية: هو يعمل في طهران، فسأله سماحة الشّيخ: ماذا عن خارج البلد؟ فضحك المرافقون ضحكة استهزاء وقالوا: لا هو في طهران. فتوجّه المسؤول مباشرة وقال لسماحة الشّيخ: لا، أنا لست هناك بعد، والتفت إلى مرافقيه وقال: نعم، سماحته يقصد أمريكا، نعم، لقد كنت هناك لمدّة سبع عشرة سنة، وكنت قد أرسلت رسالة لسماحته من هناك. فقال سماحة آية الله البهجة له: «تلك الرّسالة والهديّة الّتي أرسلتها لي ما زالت موجودة!». اندهش المسؤول من ذلك كثيراً، لأنّ سماحته لم يكن قد رآه مطلقاً، ولم يكن قد سأل أحداً عن اسمه ولقبه. بعدها قال المسؤول: إذن ما زالت السّبعة عشر عاماً في ذهن سماحتكم، كنت طالباً في الجامعة وقتها، وأرسلت لسماحتكم هديّة، كيف تذكرون ذلك، مع أنّكم لم تروني سابقاً قطّ؟ لم أكن أحتمل أن يكون في ذهنكم أبداً أو أن تطابقوني على ذاك الشّخص! هنا اندهش المرافقون، وأطرقوا نظرهم إلى الأرض وهم خجلون ونادمون من سوء ظنّهم» . ينقل أحد تلاميذ آية الله الشّيخ البهجة، عن آية الله السيّد الكشميري(قدّس سرّه): «في أحد الأيّام في مدينة قم قُرع باب المنزل أول الصّباح، فتحت الباب، رأيت أنّه آية الله العظمى الشّيخ البهجة. بعد تناول الفطور، قال سماحته: قل لعيالكم الكريمة أن تحضر ـ والّتي كانت ابنة آية الله الشّيرازي أُستاذ آية الله العظمى الشّيخ البهجة ـ وبعد السّؤال عن أحوالهم والدّعاء لهم، قال سماحته: «إنّ السّيدة المعصومة منزعجة لأنّكم ما ذهبتم لزيارتها!. يقول آية الله الكشميري: دقّقت فرأيت أنّه صار لنا مدّة ونحن راجعون إلى قم ولكن لم أستطع أنا وعيالي أن نذهب إلى الحرم!» . أيضاً ينقل أحد طلاب آية الله الشّيخ البهجة (البالغ مناه) أنّ آية الله السيد الكشميري (قدّس سرّه) قد سأل سماحة الشّيخ البهجة: ماذا يجب فعله؟ فأجاب سماحته بجواب قصير وبليغ: «السّكوت والجلوس في المنزل!». وينقل أحد أساتذة الحوزة: «في بداية التّحصيل الحوزوي كان لديّ صديق نتباحث معاً الدّروس الحوزويّة، أحد الأيام عندما أتى للمباحثة قال لي: هل تريد الحقيقة؟ أنا لم أعد أودّ البقاء في الحوزة، لقد ضجرت، أريد أن أذهب خارجاً وأعمل، البقاء هنا لا منفعة فيه، فقلت له: إلى أين ستذهب وماذا تريد أن تعمل؟ فقال: أذهب لأصبح معلّماً أو أجد عملاً آخر. ذاك اليوم انتهى بحثنا، ومضى وقتٌ لكلامنا، في نفس تلك الأيّام، وفي أحد أيّام الجمعة ذهبت أنا وهو إلى منزل آية الله العظمى الشّيخ البهجة: بمجرّد أن جلسنا قال سماحته: يا فلان، لا تستصغر هذا «قال الصادق»، و«قال الباقر» ، لا تظنّوا أنكم إذا ذهبتم وأصبحتم معلّمين أنّ هناك خبراً ما، لا يا عزيزي، كلّ ما هو موجود، هو هنا . هذه الكلمات بعثت على تنبّه وصحوة صديقنا وجعلته يلتفت أنّ قصد سماحته هو ذمّ تلك الهَواجِسِ الخياليّةِ الّتي كان باله مشغولاً بها، وترك ما كان قد عزم عليه» . يقول أحد الثقات: «عندما كنت أذهب إلى فومن، وقبل أن أرجع إلى قم بيوم ذهبت لخدمة أحد علماء فومن وهو الحاج السيّد أبو القاسم أريب الفومني، أعطاني سماحته قطعاً نقديّة، وقال: أعط واحدة منها لآية الله العظمى الشّيخ البهجة، وعندما أتيت إلى قم سلّمت واحدة من هذه القطع النّقديّة لسماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة حفظه الله، وعندما أردت أن أذهب ثانية إلى فومن، أعطاني آية الله العظمى الشّيخ البهجة مبلغ ألف تومان وقال: أعط هذا المبلغ بواسطة أحدهم إلى السيّد أريب، فعلاً أخذت المبلغ وأعطيته لأحد أهل السّوق وقلت له: أعط هذا المبلغ للسيّد أريب ولا تقل له من الّذي أعطاه، جلست في دكّانه وذهب هو وعاد، رأيت أنّه قد دُهش كثيراً، قلت له: ماذا حصل؟ قال: عندما أعطيت المبلغ للسيّد أريب قال: لقد خَرِبَ قسم من منزلنا ويحتاج للإصلاح، وجاء المعمار وقال: أصلحه وآخذ ألف تومان، ولكن بما أنني لم أكن أملك المال قلت له: الآن اصبر، إلى أن وصل المال، بمقدار أجرة المعمار بالضّبط» . وينقل أحد الثقات: «كان هناك شخص قد علق بذهنه بعض الشّبهات العقائديّة، واتّجه من مدينته إلى مدينة قم واستقرّ هناك، في إحدى اللّيالي يرى آية الله العظمى الشّيخ البهجة في عالم الرّؤيا، وهو يجيبه عن الشّبهات، فاستيقظ وصار يتردّد في صدق رؤياه، لذا أتى إلى سماحته يوم الجمعة ليسأله عن هذه الشّبهات، أراد الشّروع بطرح شبهاته فقال له سماحته: «الجواب نفس ذاك الّذي قد قلته لك في الرّؤيا، لا تتردّد!» . ويقول حجّة الإسلام الشّيخ الاسفندياري: «ابتلي أحد أقاربنا بمرض السّرطان، الأطباء قالوا له: يجب إجراء عمليّة جراحيّة في أقرب فرصة، وإلّا سرت الغدّة السرطانيّة في كلّ البدن وتصبح غير قابلة للعلاج، فتحيّر أقاربي في هذه الظّروف واضطربوا،هل يجرون له العمليّة أم لا؟ مِنْ أجْلِ هذا، قرّروا الذّهاب إلى سماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة ليستخير لهم مِنْ أجْلِ العمليّة الجراحيّة، فقال لهم سماحته: العمليّة غير لازمة، بعدها أعطاهم مبلغاً من المال ليدفعوه عن المريض صدقةً، وأيضاً أمرهم أن يخلطوا ماء زمزم مع تربة سيّد الشّهداء (عليه السّلام) ويعطوه للمريض حتّى يشرب مقداراً منه كلّ يوم بقصد الشّفاء، وكذلك أن يعطوا لعدد من الفقراء مقداراً من الطّعام، وأن يدفعوا الصّدقة للفقراء قدر ما يستطيعون، وأن يوصوا عدّة أشخاص بأن يدعوا له للشّفاء من المرض. أقارب المريض وبسرعة نفّذوا توصيات سماحة الشّيخ البهجة بدقّة، ونقلوا المريض إلى مشهد المقدّسة للتّوسل بأهل البيت (عليهم السّلام)، بقي المريض في مشهد ثلاثة أيّام مشغولاً بالدّعاء والمناجاة وحصل في حرم ذاك الإمام الهمام على الكثير من الحالات المعنويّة والرّوحانيّة. بعد الرّجوع، لم يعد يشعر المريض بالألم، قرّرنا أن نذهب لمنزل آية الله العظمى الشّيخ البهجة، حتّى نضعه بالصّورة ونأخذ منه الخطوات التّالية، وعندما كنا في طريقنا لمنزل سماحته التقينا بسماحته في الطّريق بين المنزل والمسجد، فسأل سماحته: كيف حال المريض؟ قلنا: الحمد لله، وحدّثنا سماحته بكلّ ما حصل في مشهد وما قمنا بتنفيذه، فقال سماحته: اعملوا نفس هذه الخطوات وراجعوا الطّبيب، عندما راجعنا الطّبيب، وبعد المعاينة سألنا وهو مستغرب: هل قمتم بعمل ما أو أنّكم ذهبتم وعالجتموه في مكان ما؟ فقال المريض: كيف؟ فقال الطبيب: كيف زال المرض بشكلٍ لا يصدّق؟! فهو لا يحتاج للعمليّة، وبقي مقدار من الغدّة السّرطانية والّذي يتمّ علاجه بالدّواء!» . يقول أحد الطّلبة الّذين يحضرون درس آية الله الشّيخ البهجة: «إحدى اللّيالي حضنت طفلتي الصّغيرة وقبّلتها، ولم أقبِّل ابنتي الكبيرة الّتي كانت نائمة، للحظة خطر بذهني، إن شاء الله لا تكون مستيقظةً حتّى لا تتأذّى، لأنّني لم أحضنها وأقبّلها. ولم اعتنِ بهذا، عندما وصلت صباحاً أوّل الوقت لمحضر سماحة الشّيخ، وبالضّبط بعد السّلام قال لي: إن شاء الله أنّكم تراعون المساواة بين أولادكم؟!» . يقول حجّة الإسلام والمسلمين الشّيخ الشّوشتري أحد أئمّة الجمعة: «قال أحد أصدقائي: إنّه ولمدّةٍ، كنت أنام ولا أوفّق لصلاة اللّيل، فقلت لسماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة: إنّني أحبّ أن أصلّي صلاة اللّيل ولكن يغلبني النّعاس، وتفوتني صلاة اللّيل، فقال سماحته: أيّ ساعة تريد أن تستيقظ؟ فقلت له: السّاعة الثّالثة ليلاً. فقال سماحته: اذهب، وإن شاء الله تستيقظ. بعد هذا صرت أستيقظ السّاعة الثالثة كلّ ليلة حتّى وإن كنت متعباً أو كنت قد نمت قبل ساعة» . وينقل أحد تلاميذ سماحة آية الله الشّيخ البهجة: إنّ مثل هذه القضيّة كان ينقلها أيضاً أحد العلماء وهو آية الله السيّد محمّد باقر الأبطحي(قدّس سرّه) حيث كان يقول: «منذ أكثر من أربعين عاماً كنت في إحدى حجر المدرسة الحجّتيّة وطلبت من سماحة الشّيخ البهجة نفس الطّلب وقبل صلاة الصّبح سمعت صوتاً واستيقظت، وذهبت خارج الحجرة فلم أرَ شيئاً، دقّقت النّظر رأيت أنّه وقت صلاة اللّيل، وحصل ذلك لليلتين أو ثلاث، وبعد ذلك كنت أستيقظ، ولكن للأسف إذ أن هذه الأصوات لم تستمرّ لأربعين ليلة على الأقل» . أحد الفضلاء من السّادة ـ والّذي لا يرضى بذكر اسمه ـ كان يقول: «جاء شاب لخطبة ابنتي ولكن لأنّنا لم نقبله من ناحية الالتزام الدّيني ورفضناه، فأُسرة ذاك الشاب لجؤوا إلى السّحر وأثّر فعلاً بحيث إنّه كلّ مرّة تخرج نار من إحدى زوايا المنزل، وتوقّعنا أنّه من فعل أُسرة ذاك الشّاب، وأصبحنا فعلاً متحيّرين، لذلك ذهبنا لمنزل آية الله العظمى الشّيخ البهجة وعرضنا على سماحته ما حصل، فقال سماحته: إن شاء الله لن تأتي النّار لاحقاً! بعد هذا أصبح الوضع طبيعيّاً وارتحنا من ذلك البلاء» . يقول أحد الطّلبة من مدينة أصفهان: «سافرت مدّة إلى مشهد المقدّسة مِنْ أجْلِ خلوص الذّات وتزكية النّفس، في أحد الأيّام ذهبت لمحضر آية الله العظمى الشّيخ البهجة، فسماحته وبدون أن أسأله قال: «يا فلان، التّزكية بهذا الشّكل لا فائدة منها، اذهب إلى أصفهان وأدخل السّرور على قلب أمك!». قلت لسماحته: لا يمكن، وتناقشت مع سماحته قليلاً. عندما استأذنت من سماحته صرت أفكّر أنّه لم أكن قد حدّثت سماحته بالموضوع من قبل، إذن من أين علم سماحته؟ فرجعت إلى سماحته واعتذرت منه» . نقل حجة الإسلام والمسلمين الشّيخ الشّعباني: «لما أردتّ أن أتعمم ذهبت بعد صلاة الصّبح لكي أتعمم بيد سماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة المباركة في مسجده. وسماحته بعد أن وضع العمامة على رأسي سألني: ماذا تدرس الآن؟ في ذاك الوقت كنت قد أكملت اللّمعتين تقريباً عدا بعض الأبحاث الصّغيرة في هذه المجموعة الفقهيّة الكبيرة فلم أكن قد قرأتها، وفي تلك اللّحظة لم أتوجّه لذلك، لذا أجبت سماحته بأنّي قد أكملت اللّمعتين. حينها شعرت كأنّ سماحته قد انزعج وربّما قد ظهر الغضب على وجهه وقال لي: «النّجاة في الصّدق!». هذه الجملة من سماحته نبّهتني أنّ سماحته قد دعا للجميع ولكن لماذا قال لي هذه الجملة؟ بينما أنا أتأمّل عرفت أنّه لم أكن قد قرأت بعض أبواب اللّمعتين، وأنّني قلت: لقد أتممت اللّمعتين، ربّما لم يكن هذا صحيحاً لحدٍّ ما. لذلك ذهبت إلى سماحته ثانيةً وقلت له: شيخنا، ما قلته لسماحتكم من أنّني أكملت اللّمعتين قصدي هو هذا، أنّني أكملتها بشكلٍ إجمالي، ولم أكن ملتفتاً لبعض الأبحاث الّتي لم أكن قد قرأتها، الآن خطر في ذهني أنّني لم أكن قد قرأتها. بينما أنا أبيّن لسماحته هذا، بانت على وجه سماحته آثار الرّضا ودعا لي بدعاء الخير، وعرفت حقاً أنّ سماحته مطّلع على أسرار وبواطن الآخرين» . وينقل أحد الكبار: «سعيت قدر الإمكان أن أصلّي خلف آية الله العظمى الشّيخ البهجة دامت بركاته، وفي تلك الأيّام كان منزل أمّي في حيّ يزدانشهر في قم المقدّسة، ولم تكن المنطقة مأهولة بشكل كامل وكانت خالية. كنت في الأيّام الّتي أحضر فيها درس سماحته، أصلّي صلاة المغرب والعشاء بإمامة سماحته وبعدها أرجع إلى المنزل. في إحدى اللّيالي كان سماحته يخرج من المسجد وكنت أمشي خلفه، فقال لي لحظتها: أنتم أين منزلكم؟ قلت: في المنطقة الفلانيّة، فتأمّل سماحته وقال بعدها: اذهبوا إلى بيتكم سريعاً لا يلزم أن تأتوا للصّلاة ليلاً!. وحيث إنّ كلمات سماحته كانت حكمة وفي محلِّها شعرت أنّه يجب أن أذهب إلى البيت سريعاً، ورجعت إلى البيت فوراً، وعندما وصلت وفتحت الباب رأيت أنّ زوجتي قد احتضنت ابنها وجلست وراء الباب وهي خائفة جدّاً، سألتها: لماذا أنت خائفة؟ قالت: رأيت عقرباً في البيت خفت منها» . يقول حجّة الإسلام عبّاسي(قدّس سرّه) أحد طلبة سماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة ومسؤول الحوزة العلميّة في مدينة لنگرود: «أردت أحد الأيّام أن أستخير، كنّا نجلس أنا وصديقي في الطّابق العلوي من المسجد، وكنت أخجل أن أذهب لأطلب من سماحة الشّيخ البهجة أن يستخير لي، فقلت لصديقي: اذهب واستخر لي، كان سماحته جالساً بجنب الحائط واجتمع حوله الطّلبة للاستخارة، وصل الدّور لصديقي وأخذ آية الله العظمى الشّيخ البهجة الاستخارة لصديقي، ولكن جواب الاستخارة أعطاه لي أنا، بحيث نظر إليَّ وأنا في الطّابق العلويّ من المسجد» . وينقل الشّيخ الحجّتي: «كنّا نحضر أنا وصديقي في درس الأُصول عند سماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة، وكان بحثه في الإنشاء والإخبار، ولم أكن حينها قد تزوّجت بعد، فخطر هذا السّؤال في ذهني، هل يجوز أن أدعو في الصّلاة أن يرزقني الله زوجة صالحة؟ أجاب سماحته فوراً: نعم، يمكن للإنسان أن يدعو في الصّلاة ويقول: اللهم ارزقني زوجة صالحة. أو يقول: اللهم ارزقني ولداً بارّاً. عندما انتهى الدّرس قال لي صديقي المتزوّج: في أثناء الدّرس خطر في ذهني هذا السؤال، أنّه هل يجوز أن أدعو في الصّلاة أن يرزقني الله ولداً صالحاً؟ وسماحته أجاب عن هذا المطلب. ولذا صار معلوماً لكلّ منّا أنّ سماحته مطلّع على ضمير كلٍّ منّا» . وينقل أحد الطلاب: «ذهبت لمحضر آية الله العظمى الشّيخ البهجة وقلت لسماحته: انصحوني. فقال: لا تعصِ! فقلت: شيخنا أنا مع هذه السنّ والعمر الكبير لا ارتكب المعصية، انصحوني غير هذا. فقال سماحته: أأقول ماذا فعلت البارحة في البيت؟ فقلت: قل. بمجرّد ما أخبرني سماحته دهشتُ وودّعته سريعاً وفارقت سماحته». كلّ ذلك يدلّ على أنّ هذا الرّجل العظيم قد وَقَفَ كامل وجوده للعبوديّة فحباه الله سبحانه وتعالى إزاء هذا الخلوص في العبوديّة والرقّيّ مقاماً محموداً عنده وذكراً جميلاً لدى النّاس. كيف يتسنّى في هذه الصّفحات المعدودة تعريف اولئك العلماء الربّانييّن الّذين يطوون طريق العبوديّة بعيداً عن الرّياء والسّمعة؟ وصحيح أنّ سماحته (البالغ مناه) كان صاحب أسرارٍ مخفيّة ومعارف ومقامات عالية، لكنّه كان مواظباً دائماً على إخفائها ولم يكن ليرضى بأيّ عنوان أن يعرف شخصٌ ما أنّه قد استجيب دعاؤه في مسألة معيّنة أو تصرّفٍ من سماحته، كشفاء مريض، والأهمّ من ذلك أنّه كان دائماً ما يشير إلى أنّ مبدأ الفيوضات والألطاف ووسائطها هم الأئمّة (عليهم السّلام)، فمثلاً عندما كان يدعو لشفاء مريض أو يتصرّف لشفائه فكان يطلب من المريض أن يذهب إلى حرم السيّدة المعصومة (عليها السّلام) أو يشرب من تربة كربلاء، وكان يقول للمريض: إنّ شفاءك هو من أثر الزّيارة أو من أثر شُربِك لماءِ زمزمَ مع تربة كربلاء، وبعض المرضى كانوا يقولون: إنّنا لم نذهب للزّيارة ولم نستعمل ماء زمزم مع تربة كربلاء، بل إنّ شفاءنا كان على يد سماحته،فكان سماحته يغضب ويقول: «من أنا؟ لا دخل لي، أنا نفسي سائل، أنا أتسكّع على باب أهل البيت (عليهم السّلام)»،و أكثر ما كان يغضب سماحته إذا أفشى أحدٌ سرّاً من أسراره أو كرامة من كراماته، أجل، فقد كان يشير بكلّ وجوده إلى أهل البيت (عليهم السّلام)، ولم يكن يدعو لنفسه بل كان كلّ وجوده سهماً يشير إلى الله وأهل البيت (عليهم السّلام).
بحثنا فلم نجد الكلام الّذي يليق بسماحته، والترتيب والتنسيق لهذا الكلام الّذي نريد له أن يعكس صورة هذه القامة الشامخة، ويرسم لنا كنه معرفته، ويمكّنّنا من الإهتداء إلى تأثيرها ونفوذها في النّاس، وفي الأشياء، وفي العلماء الأجلّاء، وفي الشخصيّات الحاكمة. إنّه كان كالماء والهواء لاتستقيم الحياة بدونهما، إنّه كان كالشّمس تطلع على الجميع ويستفيد منها الجميع، أي جميع الموجودات، وكان كالغيث يحيي الأرض ويسقي نباتَها، وكان كالجبال الرّاسيات ووظيفتها بالنسبة الى الأرض لا تخفى على أحدٍ ولا يمكن تصوّر الأرض بدونها، لأنّه كان وتد الأوتاد حقاً، وكان كالبحر غموضاً ورهبةً وكرماً وفوائد لاحصر لها، كان كالسّماء في الليلة المقمرة، يحلو للناس التطلّع إليها والتمتُّع بالنّظر إليها. هذا الرّجل العظيم على الرّغم من استغراقه في الأمور العباديّة وتعمّقه الغزير في الأُمور العلميّة إلا أنّه لم يكن لينفكّ عن الاهتمام بأمور المسلمين في شتّى أنحاء العالم، بل كان له إرشادات وتوجيهات للسّياسيّين نابعة من عمق فطنته الإلهيّة، إذ كان سماحته ينظر بنور الله إلى شتّى الأُمور فضلاً عن السّياسيّة منها. وممّا يشهد على ذلك رجوع كبار القيادات السّياسيّة لسماحته في معضلات الأمور ليستفيدوا من بُعدِ النّظر الثّاقب لدى سماحته، وهذا ممّا تواتر ذكره بين الكبار من العلماء والسّياسيّين، ومن بين هؤلاء كان هو آية الله السيّد الخميني(قدّس سرّه) الّذي كان منذ بداية وصول سماحة آية الله الشّيخ البهجة من النّجف الأشرف إلى قم المقدّسة، هو أوّلُ شخص يتردّد على سماحة الشّيخ قبل الجميع والأكثر من الجميع، وكان يأتي إلى بيت سماحة الشّيخ البهجة أسبوعيّاً للاستفادة من إرشادات سماحته ، وكان ذلك دأبه حتّى بعد كِبَرِ سنّه ورجوعه من المنفى، حيث كان يأتي إلى بيت الشّيخ البهجة (البالغ مناه) ليستشيره في أُمور كثيرة لا سيما في الأمور السّياسيّة، فكان يهتمّ اهتماماً خاصّاً بسماحة آية الله الشّيخ البهجة (البالغ مناه)، وفي هذا المضمار ينقل آية الله الشّيخ المصباح اليزدي: «قال أحد أصدقائنا ـ والّذي كان كثيراً ما يذهب للسيّد الإمام، وهو جناب الشّيخ المسعودي الخميني الأمين العام لحرم السّيّدة فاطمة المعصومة سلام الله عليها: «في بعض الأوقات كان يحصل مع السّيّد الإمام بعض المشاكل الخاصّة، أو يصيبه المرض، فيرسلني إلى سماحة الشّيخ البهجة، وحصل عدّة مرّات أن ذهبت إلى سماحته وكان سماحته يأمرنا بذبح بعض الخراف، وكان الإمام يأمرني أن أقوم بتنفيذ توصيات الشّيخ البهجة فأشتري خروفاً أو خروفين وأذبحهم» . كما وينقل آية الله الشّيخ المسعودي الخميني: «لقد كنت في خدمة الإمام الخميني لمدّة أربع أو خمس سنوات، أذكر أنّ سماحته لمرّتين أو ثلاث قال لي: غداً صباحاً سنذهب لمنزل الشّيخ البهجة. وكنّا في اليوم التّالي نصل لخدمة آية الله الشّيخ البهجة، إلى نفس المنزل الّذي يعيش فيه سماحته الآن، وفي نفس الغرفة الأولى وبنفس هذا الفرش الّذي هو الآن موجودٌ، كنّا نجلس عدّة دقائق، بعدها يشير لي الإمام وأخرج أنا من الحجرة، ويبقى هذان العلمان يتحدّثان مع بعضهما لمدّة نصف ساعة، ثم يأتي الإمام ونذهب. أمّا حول ماذا كانا يتحادثان؟ أنا لا أعلم. مرّتين أو ثلاثاً في أيّامِ النّهضة (سنة 1341 أو 1342 هـ . ش) قال لي الشّيخ البهجة: قل للسيّد الخميني غداً صباحاً وفي السّاعة كذا أن يذبح خروفين، ذهبت وقلت للإمام الخميني وسماحته بدون تريّث قال لي: قل للقصّاب الفلاني أن يذبح خروفين نيابة عنّا ونعطيه ثمنه لاحقاً. إحدى المرات أيضاً قال آية الله الشّيخ البهجة: قل للسيّد الخميني أن يذبح ثلاثة خراف، عندما أوصلت الرّسالة للإمام، وبدون تريّث أمر بذبح ثلاثة خراف. هذه كانت مسائل فيما بينهم، ونحن كنّا نرى ظاهرها فقط، لكن ماذا كان باطن الأمور؟ لا اطّلاع لدينا» . ويضيف آية الله الشّيخ المسعودي الخميني: «إحدى المرّات عندما كان الإمام الخميني في جماران، قال لي الشّيخ البهجة: لديّ رسالة صغيرة، أوصلها للسيّد[الخميني]، أخذت الرّسالة ووضعتها في ظرف وأعطيتها للإمام، فقرأها الإمام وقال: بلّغوه سلامي وقولوا له: «على عيني، سوف أُنفّذ!». وينقل الشّيخ علي نجل سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه): «في إحدى اللّيالي طُرق الباب وكان أبي مشغولاً بالمطالعة، فأردت أن أذهب لأفتح الباب، لأنّه كان من العادة إذا طُرق الباب ليلاً أن أفتح الباب بنفسي ولا أدَعُ والدي يقوم بذلك، ولكن عندما سمع والدي صوت الباب أشار إليّ: اِبقَ مكانك! وذهب سماحته بنفسه ليفتح الباب، فقَلِقتُ لأنّ الوضع كان مخيفاً في تلك الأيّام، واستغربت كثيراً لِمَ ذهب والدي بنفسه ليفتح الباب، فبينما أنا أفكّر أن أذهب خلفه وتحرّكت نحو الباب فإذا بسماحته قد رجع، ولكن كان قلقاً جدّاً وبدأ يمشي في الحجرة، فسألته: من كان؟ ماالّذي حصل لم أنتم قلقون؟ فقال لي: لقد أخذوه! فقلت: أخذوا من؟ فقال: هو، هو! وأشار إليّ، أي آية الله السيّد الخميني، فقلت له: لا هذه الأمور مجرّد إشاعة! فقال لي: لا، لقد أخذوه، لقد أخذوه، إلى أن طلع الصّباح ورجع والدي من زيارة حرم السّيدة المعصومة (عليها السّلام)، وكان قد ظهر على وجه سماحته الاستبشار، فقلت لوالدي عندما رأيته مستبشراً: هل رأيتم كيف أنّ الأمر كان مجرّد إشاعةً؟ فأجابني: كلّا، بل الشّخص الّذي طرق الباب البارحة كان هو الشّيخ حسن صانعي وقال: إنّ آية الله السيّد الخميني في الإسعاف ووضعه خطير جدّاً، ومعنا أيضاً في الإسعاف السيّد الخامنئي، ونريد أن نذهب إلى المستشفى في طهران، ولكن السيّد الخميني أوقف السيّارة وأمرني أن أبلّغكم بذلك وأطلب منكم الدّعاء له. يضيف نجل سماحة الشّيخ: ثمّ قال لي والدي: إنّ الله ترحّم على هؤلاء النّاس عشرة أعوام! وبعد عشرة أعوام بالضّبط كانت وفاة آية الله السيّد الخميني(قدّس سرّه)». و ينقل آية الله الشيخ المصباح اليزدي أن آية الله السيد الخميني (قدّس سرّه) كان يرجع في حوائجه و معضلاته الخاصّة إلى آية الله الشيخ البهجة (البالغ مناه). نعم، فقد كان آية الله السيد الخميني (قدّس سرّه) عندما يَعرِض له أمرٌ مهمٌّ على كافّة الصعد فإنّه يرجع إلى آية الله الشيخ البهجة (البالغ مناه) و يأمر الآخرين بالرجوع لسماحته أيضاً، و من بين القضايا المهمّة الّتي تشير إلى ذلك ما حصل في إحدى المعارك الكبيرة و المهمّة أثناء الحرب العراقية الإيرانية، حيث اشتدّت المواجهة، و كان السيد الصيّاد الشيرازي قائد الجيش الإيراني قلقاً من حدّة المواجهة، فاتصل وقتها بقائد الثورة آية الله السيد الخميني (قدّس سرّه) و أخبره أن الوضع سيّءٌ للغاية و أنّ عدد الشهداء كبير، و التمس منه حلّاً و فرجاً لذلك، فأجابه آية الله السيد الخميني (قدّس سرّه): عليكم أن ترجعوا إلى الشيخ البهجة و تسألوه أن يدعو لكم. فاتصل السيد الصياد الشيرازي هاتفياً بمنزل الشيخ البهجة و كان الوقت متأخراً و بيّن لهم تلك الظروف العصيبة، و ذكر لهم ما طلب منه آية الله السيد الخميني و أرشده إليه، و طلب أيضاً من نجل سماحة الشيخ أن يخبر والده بذلك و يطلب منه الحلّ لأجلهم! بعد لحظات، و إذا بالحال يتبدّل، فقد حلّ الرعب في قلوب جنود الجيش الصدّامي اللعين، و بدأوا يتراجعون إلى أن بات التقهقر واضحاً في صفوفهم! و كأنّهم كانوا يهربون من شيء لكنّه غير معلوم! و اتّصل قائد الجيش بمنزل الشيخ البهجة مرّة أخرى ليبشّرهم بالفرج الّذي حلّ بهم. وينقل أيضاً الشّيخ علي نجل سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه): «في إحدى زيارات السيّد أمين الخوئي حفيد آية الله السيّد الخوئي زعيم الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف، قال والدي له: بلّغوا جدّكم أن يخرج من النّجف سنتين! فقال السيّد أمين لسماحته: هذا لا يمكن، لا يقبل! فقال والدي له: بلّغوه أن يخرج من النّجف لمدّة سنة واحدة! فقال السيّد أمين: هذا لا يمكن أيضاً لا يقبل! فقال له والدي: بلّغوه ليخرج من النّجف لستّة أشهر! فقال السيّد أمين الخوئي لسماحته: هذا لا يمكن أيضاً، لأنّه لا يقبل! فقال له والدي: بلّغوه ليخرج من النّجف لبضعة أشهر! وألحّ والدي في الطّلب. فقال السيّد أمين الخوئي لوالدي: لو سمحتم أن نبلّغ جدّي أنّه قد حصل لسماحتكم مكاشفة وفي هذه الحالة يقبل! فقال سماحة الشّيخ له: دعك من هذا الكلام! دعك من هذا الكلام! لا تقولوا له هذا، فقط قولوا له أن يخرج من النّجف! ويضيف الشّيخ علي البهجة أنّه بعد وفاة آية الله السيّد الخوئي(قدّس سرّه) سألت والدي: لماذا كنتم تصرّون على خروج السيّد الخوئي من النّجف؟ فأجاب والدي: مِنْ أجْلِ ما قد صنعوه مع سماحته من الإساءة والأذى وأخذه على عربةٍ إلى صدّام اللّعين، و... . فتحيّرت كيف أَخبَر والدي عن هذه الأمور في حين أنّها لم تكن قامت الانتفاضة الشّعبانية بعد، وأيضاً كيف علم والدي بهذه الأمور على الرّغم من أنّه لم يخبره أحدٌ قطّ بما جرى مع السيّد الخوئي!». أما بالنّسبة للمرشد الأعلى للثّورة آية الله السيّد علي الخامنئي (حفظه الله) وفي أول لقاء له بسماحة الشّيخ البهجة(قدّس سرّه) بعد التصدّي لمقام القيادة سأل سماحته: «ماذا يجب أن أفعل؟ فأطرق سماحة الشّيخ إلى الأرض لدقائق، وبعدها رفع رأسه وقال: «الحمدلله أنّكم مستحضرون للمباني، إذا عملتم طبق الموازين الّتي تصلون إليها، أنا أضمن أن لا يتركوكم وحيداً!» . وينقل آية الله الشّيخ المسعودي الخميني: «عندما نقلت للمرشد الأعلى للثّورة السيّد الخامنئي كلام سماحة الشّيخ البهجة حول لزوم تجديد تذهيب قبّة حرم السيّدة المعصومة (عليها السّلام) قال لي آية الله السيّد الخامنئي: كلُّ ما يقوله الشّيخ البهجة ننفّذه ونحن مُغْمضُو العين». وينقل أحد الثّقات أنّه سمعنا قبل أكثر من خمسة عشر عاماً أنّ سماحة آية الله الخامنئي يقول: «أنا لديّ علاقة مع سماحة آية الله العظمى الشّيخ البهجة منذ عشرين سنة تقريباً، وأنا أستفيد من سماحته» . وينقل الشّيخ الرّيشهري في سبب تعلُّقه بسماحة الشّيخ البهجة: «بتاريخ 28/12/1369 هـ . ش التقيت بالمرشد الأعلى للثّورة، في ذاك اللّقاء وقبل أن أتحدّث، أشار سماحته إلى أحد أعضاء التّعبئة الشّعبيّة (البسيج)، والّذي كان قد كتب رسالةً لسماحته، وكان فيها أنّه خلال مدّةِ أسره في الحرب المفروضة من نظام البعث العراقيّ، وبسبب زيادة المواظبة والمراقبة، حتّى بالنّسبة للخواطر الذّهنيّة، فقد أصبح مورد عناية الباري تعالى، وظهرت له بعض الحالات، ولكن حتّى يصل للمقصد النّهائيّ ـ أي المعرفة الشّهودية للحقّ ـ يحتاج إلى مرشدٍ لذلك، وطلب من سماحته الإرشاد، وسماحته أجابه: أنا لست ذاك الشّخص الّذي تبحث عنه، لتحصيل المراد اذهب وراء الشّيخ البهجة... كلام المرشد الأعلى للثّورة، وبعض الكرامات الّتي كنت قد سمعتها حول آية الله الشّيخ البهجة صار موجباً أن أكون بصدد إيجاد الفرصة للصّلة مع هذا العالم الحكيم وأن أستفيد من سماحته» . أجل فقد كان سماحته مهتمّاً بكافة القضايا والمسائل الّتي تَمُتُّ للتّشيع وحفظ بيضته بصلة، فكان أباً رؤوفاً للشّيعة في أنحاء العالم، ومن جملة ذلك لما أرسل سماحته إلى مرشد الأعلى للثّورة آية الله السيّد الخامنئي (حفظه الله) قبل وقوع إحدى الحوادث بشهور عدّة، والّتي كان لها وَقعٌ خطير جدّاً في إيران سنة 1430هـ . ق والّتي كان أثرها السّلبي سيرتدّ على الإسلام عامّة وعلى التّشيع خاصّة فقال سماحته: «إنّ هناك خطراً كبيراً محدقاً، وقد قمتُ بكلِّ ما يمكنني ولكن بَقيَتْ هناك أُمور يجب أن تقوموا بها أنتم!»، وبدوره قام آية الله السيّد الخامنئي ببعض الخطوات المهمّة للحيلولة دون تفشّي هذا الخطر، الّذي قد أحاط فعلاً بالأمّة، واستمرّ آية الله السيّد الخامنئي (حفظه الله) مؤدّياً دوره في وأد هذا الخطر الّذي كاد أن يهزّ كيان التّشيع، وفي ذلك إشارة إلى ما حصل بعد الانتخابات في إيران سنة 1430 هـ . ق، والّتي جعلت إيران في خطر كبير ممّا جعل الخطّر يهدد الشّيعة في أنحاء العالم الإسلامي من جراء وصول الأيدي الخفيّة للحرب النّاعمة من قبل دول الكفر العالمي. وعلى الرَّغم مِنْ أنّ سماحته كان قليل الكلام وأنّ أسلوبه كان الاختصار جدّاً في الكلام والمراسلة ـ ومن يعرف سماحته يشهد له بذلك ـ ولكنّه كان في ظروفٍ مهمّة تتعلّق بمصالح الإسلام عموماً والتّشيّع خصوصاً، يبعث برسائل تتضمّن توجيهات مهمّة إلى كبار زعماء الشّيعة مثل آية الله السّيد الخميني(قدّس سرّه) والمرشد الأعلى للثّورة آية الله السيّد الخامنئي (حفظه الله)، بحيث كانت هذه الرّسائل والتّوجيهات تحظى باهتمام بالغ من قبل المرسَل إليهم، ولكن لم نتعرّض لتفاصيل تلك الرّسائل حفاظاً على الأمانة وخصوصيّة تلك الرّسائل. كما و كان المرشد الأعلى للثورة آية الله السيد الخامنئي (حفظه الله) يكنّ مودّةً حميمةً و حبّاً عميقاً لشيخنا المقدّس (البالغ مناه) و يعتقد به اعتقاداً راسخاً، حيث كان كثيراً ما يأتي إلى بيت الشيخ البهجة في مدينة قم المقدسة لزيارته و الاستفادة من محضره، و لقد بدا التأثر العميق على سماحة السيد الخامنئي (حفظه الله) برحيل الشيخ المقدس البهجة (البالغ مناه) بحيث نعاه بكلمات لم ينع أحداً بمثلها، و لم يقل في أحد نظيرها، نابعةٍ من صميم القلب المتألم لفقد العالم الفقيه المتألّه، الشخصيّة الفذّة الجامعة بين العلم و العمل، و التي لم يأت التأريخ لها بمثيل، حيث قال: « ... و هذا مصاب كبير و خسارة لا تنجبر بالنسبة لي و لجميع محبّي هذا الرّجل العظيم. ثُلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شيء. ذاك العظيم الّذي كان يعدّ من أبرز مراجع التّقليد المعاصرين، كان أستاذاً كبيراً في الأخلاق و العرفان، و منبعاً للفيوضات المعنوية الّتي لا تنقطع أيضاً. لقد كان القلبُ النّيرُ النّقيُ لذاك الورع التّقي مرآةً مشرقة و مصقلةً بالإلهام الإلهي، و كان كلامه المعطّر دليلَ فكر الوالهين و السالكين و عملهم. إنّني أتقدّم بتعازيّ الحميمة لساحة حضرة بقيّة الله أرواحنا فداه، و أتقدّم بالتعازي إلى حضرات العلماء الأعلام و المراجع العظام و إلى تلامذته و محبّيه و المستفيضين من نَفَسِهِ المفعم، و لا سيما أهل بيته الكرام و أولاده الموقّرين، و أسأل الله تعالي السلوان لنفسي ولباقي المفجوعين، و أسأله الرّحمة و المغفرة للرّوح المطهّرة لذاك العظيم ... ». نعم، فلقد كان آية الله السيد الخامنئي يعدّ فقد الشيخ (البالغ مناه) مصيبةً لا تنجبر بالنسبة له، و لقد رجا من الله أن يلهمه السلوان لعظم المصيبة التي مني بها الإسلام، و عزّى نفسه برحيل الشيخ المقدّس (البالغ مناه). فقد كان سماحته على الرّغم من انقطاعه الكامل إلى الله تعالى ومقاماته العلميّة والعرفانيّة العالية لم تكن تغيب عنه قضايا الشّيعة في أنحاء العالم، وكلّ ما يتعلّق بأُمورهم المصيريّة، وكثيراً ما كان يقدّم المشورة والتّوجيهات الاستراتيجيّة الّتي تنمّ عن عمق نظر سماحته واطّلاعه على أدقّ التّفاصيل على رغم عدم متابعته لوسائل الإعلام المرئيّة والمسموعة والمقروءة مطلقاً. وممّا يدلّ على ذلك أنّه في أثناء العدوان الإسرائيليّ الغاشم على الشّعب اللّبناني ولا سيما على شيعة أهل البيت (عليهم السّلام) في الجنوب، وفي ظروف صعبة جدّاً، بعث سماحة آية الله الشّيخ البهجة (البالغ مناه) برسالة شفهيّة عبر أحد الوسطاء إلى زعيم الشّيعة في لبنان السيّد حسن نصر الله (حفظه الله) يأمرهم فيها بالثّبات ويبشّرهم بالنّصر، وكان هذا في أوائل أيّام حرب تمّوز، الأمر الّذي كان على خلاف ما هو ظاهر من نتائج متوقّعة للحرب، ولكن كان النّصر والغلبة للمقاومين الشّيعة، وقد أفصح عن ذلك الأمين العام للمقاومة بقوله: «إنّ سماحة الشّيخ البهجة قد بشّرنا بالنّصر في حين أنّه قد زاغت أبصار البعض، وبلغت القلوب الحناجر!». وأيضاً مما يدلّ على مدى اهتمام سماحته بشؤون الشّيعة وعلمائهم وقياداتهم، هو أنّه عندما أرسل سماحته برسالة فوريّة إلى زعيم الشّيعة في لبنان السّيد حسن نصر الله (حفظه الله)، الّتي كانت تتضمّن دعاءً للحفظ والوقاية، وأيضاً أوصى سماحته بأن يبلغوه بالمواظبة على هذا الدّعاء بشكل يومي من حين وصول الرّسالة، الأمر الذي كان محلّ استغراب لنجل سماحة الشّيخ(قدّس سرّه)، بسبب إرسال سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه) لهذه الرّسالة وفوريتها دون أيّة مقدّمات، ولكن ما تبيّن بعد يومين من وصول هذه الرسالة للسيّد حسن نصر الله، أنّه كان هناك خطرٌ كبيرٌ يهدّد زعيم الشّيعة في لبنان، فكان سماحته ومن مبدأ حرصه واهتمامه بقضايا الشّيعة المصيريّة قد قام بتصرّف دعائيّ وتكويني لدفع ورفع مكيدة الأعداء عن شخصيّةٍ يشكِّل الخطرُ عليها خطراً على الشّيعة في تلك البلاد. فتلك الأمور لا يعرفها إلّا خواصّ الخواصّ،لأنّ سماحته كان يتهرّب من الشّهرة وكافّة وسائل الإعلام، كما كان يشترط على الزّعماء ألّا يذكروا اسمه في المحافل والأوساط السّياسيّة والإعلاميّة، لهذا فقد بقي كنزاً مخفيّاً لا يعرفه بعظمته وشأنيّته الواقعيّة إلا ثلّة من خواصّ الخواصّ. نعم، لقد منح الله جلّ جلاله لعبده الصالح الشّيخ البهجة من نوره ما جعله مشكاة للآخرين، يفيض عليهم من المعارف الربّانية في كلّ ما يلزمهم من أُمور حياتهم، بل إنّ آية الله الشّيخ المصباح اليزدي يقول: إنّ المحفّز الأكبر لمتابعته للأمور الاجتماعيّة كان هو توجيهات سماحة الشّيخ المقدّس البهجة، ويضيف: «لقد أعطى الله سبحانه وتعالى لسماحته صفاتٍ وقابليّاتٍ ذاتيّةً خاصّةً به وهي ليست صفاتٍ اكتسابيّة بل هي هبةٌ من الله تعالى وهي أنّه يملك فطنةً وفراسةً خاصّةً في المسائل الفرديّة والاجتماعيّة والسّياسيّة، ويملك ذكاءً ودقّةً عالية جدّاً ممّا يدفع المرء إلى التّعجّب من أنّه كيف يمكن لشخصٍ غارقٍ في المطالعات العلميّة والأُمور العباديّة أن يملك دقّة كهذه في المسائل. وربّما يعتقد هؤلاء الّذين لم يروه إلا في حالات العبادة والمطالعة والتّدريس أنّه لم يكن يهتمّ بالأُمور السّياسيّة لكن أقول لهم: لقد كان سماحة الشّيخ هو المُحفّز الأكبر ـ على الأقلّ لي أنا ـ لِأن أتوجّه إلى المسائل السّياسيّة والاجتماعيّة» . ويقول آية الله الشيخ محمود أمجد في حقّ سماحته: «هذه الطّائفة من العلماء هم أهل الكياسة، و«المؤمن ينظر بنور الله، وسماحته عارف بروح السّياسة، وإذا توجّه إلى هذه العوالم، فإنّه يفهم أكثر من الجميع» . فكان سماحته عندما يبدي نظراً أو رأياً في مسألة ما فلا يبدي إلا عين الصّواب في ذلك، فَتُخَمِّنُ أنَّه يتابع و يقرأ تفاصيل المحلّلين الّتي قد أغناه الله عنها بالنظرة الإلهيّة النورانيّة الّتي يرى فيها ما لا يمكن للآخرين رؤيته، فكان رضوان الله تعالى عليه يقول: «كان هناك البعض يتابعون وسائل الإعلام و الصّحف و لكنّهم كانوا لا يدرون ما حصل بالأمس، و كان هناك البعض لا يتابعون وسائل الإعلام و لا الصّحف، و لكنّهم كانوا يُخبِرون عمّا سيحصل غدا!!». و يبرز عمق اهتمام سماحته بالقضايا المصيريّة للمؤمنين في شتّى أنحاء العالم في السنوات الأخيرة من حياة سماحته المباركة، حيث كان العراق يعيش ظروفاً مأساويّة و تفجيراتٍ يروح ضحيّتها يومياً المئات من الأبرياء، لا سيما المناطق المشتملة على المراقد المقدّسة، فكان سماحته عندما يسمع بأخبار التفجيرات و مقتل الأبرياء ـ و إن كان عددهم قليلاً ـ يتألّم كثيراً لذلك، و يظهر التألّم على ملامح وجهه بشكل واضح و يوثّر ذلك في أعماله اليوميّة، و يشهد بذلك العلماء في لجنة الاستفتاءات، بحيث إنّ سماحته إذا كان في الأيام العادية يجيب على عشرة استفتاءات فإنّه يجيب في أيام وقوع مثل تلك الحوادث فقط على سؤالين أو ثلاثة. و كان نجله الشيخ علي البهجة يقول: كنت أمنع وصول أخبار كهذه إلى سماحته، و طلبت من لجنة الاستفتاءات أيضاً ألّا يخبره أحد منهم بهذه الحوادث، و لكن لم نكن ندري من أين كانت تصله أخبار تلك الحوادث بحيث كان يظهر التفجع واضحاً على سماحته. فرضوان الله تعالى على الشيخ المقدّس الأب العطوف الّذي كان يحمل همّ الأمّة و يفعل ما بوسعه لدفع الابتلاءات عن المؤمنين في أنحاء العالم على منهج سادته و أوليائه أهل البيت صلوات الله عليهم أجمعين الّتي لا يستوعبها إلا من ألقى السّمع و هو شهيد.
كان اليوم الثّاني والعشرون من شهر جمادى الأولى من سَنَة 1430 هـ . ق قد أرّخ نهاية الانتظار، وأعلن الوصول إلى حدائق ذات بهجة، وتحقّق منية الوصال الأبديّ الّذي كان هذا الشّيخ العظيم ينتظره طول حياته الطّيبة الّتي جاوزت التّسعين. انتظارٌ سطّر به الشّيخ أجمل معاني العشق الإلهي، وروى به روايةً قد ألّف صفحاتها من آيات ومناجاة، رواية العبوديّة لربّ السّماء. لقد كان انتظار المقدّس الرّاحل لهذا العروج بكامل وجوده، بجسمه الذّابل النّحيف، وروحه الظمأى المكابدة، حتّى حانت لحظة الرجوع إلى الله ... ينقل نجل سماحته الشّيخ علي حول حالات والده قبل الوفاة: «إنّ سماحته قبل وفاته بأسبوع، كان يتحدّث حول الموت كثيراً، قبل الوفاة ببضعة أيام،(يوم الأربعاء أو الخميس قبل ذلك)، فإنّ والدي وفي أثناء خروجه من المنزل قال لوالدتي: أتسمعين؟ قالت: نعم! فقال: هل تعرفين الشّخص الفلاني في فومن؟ فقالت: نعم! فقال سماحته: هو كان يقول هذا الشعر: ياران وبرادران، مرا ياد كنيد رفتم سفري كه آمدن نيست مرا وتابع قائلاً: هل سمعتي؟ فأجابت والدتي: نعم! وتبسم والدي وهذا، كان آخر كلام قاله لأمّي ... طبعاً ذاك الوقت ولأنّي لم أعرف سبب قراءة بيت الشّعر هذا، لم يكن مفهوماً لدي. وفي صباح يوم السبت 21/جُمادى الأولى/1430 هـ . ق السّاعة التّاسعة والنّصف ذهبت لحجرة والدي فما رأيت سماحته ، اتّصلت فقالوا: مضت عشر دقائق وهو جالس أمام الباب، ركضت حافياً، وذهبت لسماحته، رأيته جالساً وبهيبة عالية وظهره مستقيم ولم يكن متأثّراً بانحناء ظهره الّذي كان لديه، وكأنّه رجع عشر سنوات إلى الوراء، وصار أكثر شباباً. قلت: شيخنا! لماذا أتيت إلى هنا وجلست؟ رفع رأسه وقال: بلى؟ دائماً عندما يكون في الذّكر أو يغرق في التّفكير كان يحتاج للحظات حتّى يخرج من تلك الحالة. قلت: شيخنا! ما زال هناك أكثر من نصف ساعة لوقت الدّرس لماذا أتيتم جلستم هنا؟ فقال: الآن قد جلست! فذهبت وانشغلت بأعمالي، ولكن بعد عشر دقائق، اتّصلوا بي من أمام الباب وقالوا إنّ سماحته يقول: «أخبروا أنّه لن أذهب إلى الدّرس ولا إلى الصّلاة في المسجد»، وجلس في نفس المكان. ركضت بسرعة وأوصلت نفسي إليه. فقال سماحته: «لقد آلمني بطني دفعةً واحدة، أخذت كأساً من الماء شربته لكن لم يذهب ألمي، لا طاقة لديّ». نقلت سماحته إلى حجرته للاستراحة، استمرّ ألم بطن سماحته إلى صباح اليوم التّالي، فقلت: هل أحضر الطّبيب؟ فقال: لا. فقلت: هل ألمكم شديد؟ فقال: ليس شديداً جدّاً. صباح الأحد 22/ جُمادى الأولى/ 1430 رأيت أنّ سماحته قد صلّى صلاة الصّبح من جلوس، فتعجّبت، لم يكن لديه سابقة بأن يؤلمه بطنه لهذا الحدّ الّذي يوجب ضعفه بحيث لا يتمكّن من الوضوء ويصلّي متيمّماً من جلوس. بعد عشرين دقيقة من الصّلاة، كانت زوجتي قد جاءت، ولأنّها كانت تتصوّر أن سماحته لم يكن قد صلّى، فسألت بتعجّب: سماحته فقط يقول: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته! أنا كنت قد سمعت سلام سماحته مرّتين ومع هذه المرّة أصبح ثلاث مرات، فقلت ربّما قد شكّ في الصّلاة ويكرّر هذه الجملة. فقالت: لقد تمدّد سماحته. فقلت: لا مانع، لأني قد رأيته صلّى مرتين، بالطّبع لا أعرف ما قبله. بعد ذهاب زوجتي، رأيت سماحته قال مجدّداً: السّلام عليكم ورحمة الله وبركاته. وكرّر هذه الجملة سبع أو ثماني مرّات، فتعجّبت من فعل سماحته. قبل الظّهر حين أتت زوجتي أرادت أن تحرّك له المروحة اليدويّة. فقال سماحته: «لا، أعطني أنا أحرّك المروحة بنفسي». رأيت أنّه نظر إليّ نظرة ذات مغزى، وبعدها إلتفت إلى زوجتي ولم يرفع نظره عنها. بعد مدّة قال لها: «الآن إذا لم يكن هناك زحمة، هيّئوا لي كأس عصير التّفاح، ربما أشربه . حيث إن سماحته كان كثيراً ما يستعمل عصير التّفاح للعلاج. فرحت هي وذهبت، بعد لحظات، جاء ابني. فقال له: «اذهب وصلِّ» فأجابه: لم يؤذّن بعد، فقال سماحته: الآن اذهب وتوضّأ. بالنّهاية أرسل الجميع خارجاً ولم يترك أحداً يبقى معه. اتصلت بالطّبيب، وطلبت منه أن يأتي إلى المنزل ليعاين سماحته فقال: آتي بعد السّاعة الثّانية عشر حين ينتهي عملي. في السّاعة الثانية عشرة والنصف جاء الطّبيب، فقلت لسماحته: هذا الطّبيب، وذكرت له اسم الطّبيب. فقال سماحته: حفيد سيّد الذّاكرين؟ فقال الطّبيب: شيخنا! أنا قلت لسماحتكم عن شجرة نسبي قبل خمس سنوات، أتذكرون ذلك إلى الآن؟ فقال سماحته: نعم. أذكر أنّي قلت لكم أيضاً اتركوا لحيتكم قليلاً حتّى تصلوا لمقامات جدّكم. لقد رأيته [أي جدّكم] رحمه الله. فقلت لوالدي: سيدي! لقد ترك شيئاً من لحيته. فقال: ليترك أكثر من ذلك بقليل. فسماحته كان يقول هذا الكلام لكلّ شخص يحلق لحيته. قاس الطّبيب ضغط دم سماحته، إحدى يديه كانت سبعاً والأخرى كانت إحدى عشرة. ومهما حاول لم يكن ليعرف مرض سماحته، فقال في النّهاية: يحتمل أنّه حصل معه تمزّق أمعاء. اتّصلنا بطهران حتّى يهيّئوا المستشفى، وسماحته أصرّ أن ننزله عن السّرير حيث قال: «لست مرتاحاً على السّرير». عندما أنزلت سماحته من فوق السّرير قال لمرّة واحدة: الحمد لله. ووضع رأسه على ذراعه. فقلت: سيدي، هل أحضر لكم وسادة؟ فقال: لا، لا أريد! فقلت في نفسي: إنّ سماحته بطنه آلمه اللّيلة الماضية ولم ينم، والآن لأنهم أعطوه مسكّناً، جيدٌ أن يستريح. كنت متوتّراً. هيّأت الملابس والملف الطبّي وماء زمزم وتربة كربلاء حتّى إذا كان هناك حاجة للعمليّة الجراحيّة، تكون هذه الأمور معي، قلت أيضاً ليهيّئُوا السيّارة. كانت السّاعة ما بعد الواحدة ظهراً، وعندما أردت أن أهيّئ سماحته لأنقله إلى طهران، أصبحت الريّاح قويّة جدّاً، صوت الرّعد والبرق القويّ والأصوات الموحشة في ذاك الجو كانت ترنّ في الأذن، وهطل مطر غزير. كنت أفكّر مع نفسي: إلهي كيف أنقل سماحته إلى طهران مع حال الجوّ هذا! بالنّهاية هدأت الرّيح، وكانت السّيارة مجهّزة، ذهبت لأوقظ سماحته، لكن مهما فعلت لم يكن سماحته يستيقظ! فقال الآخرون: هل نخبر الإسعاف؟ قلت: لا! ذُهِلْتُ، لم أكن أصدّق أنّ سماحته قد فارق الدّنيا. كنت أحتمل أنّ سماحته في حالة شبيهة بالموت الاختياريّ. جسمه كان حارّاً أيضاً ... طبعاً اتصلوا بالإسعاف وأتوا، ولكن مهما سعوا لم يتمكنوا من فعل شيء، وقالوا يجب نقل سماحته إلى المستشفى، ولكن أيضاً هناك لم يتمكنوا من فعل شيء. تبيّن أن والدي قد تعمّد إخراج الجميع من الحجرة، ولم يكن أحدٌ عند سماحته في الحجرة ساعة وفاته، حتّى لا يتعرّف على حالته حينها». أجل ففي حوالي السّاعة 14:40 من ظهر يوم الأحد كان الطّقس هادئاً وجميلاً، لكن فجأةّ تلبّدت الغيوم السُّوْد، وكأنّها ارتدت ثياب العزاء، وأمطرت السّماء بغزارة كأنّها كانت دموع الألم والفراق، أمّا دوي الرّعد فكان قويّاً، كأنّه صيحات أسىً وعزاء، وكأنّ السّماء تنعى رحيل العبد الصّالح الشّيخ محمّد تقي البهجة، وعروجه إلى الملكوت الأعلى ... ونُعيَت الرّوح الطّاهرة إلينا فاهتزت أفلاك دنيانا حزناً وافتجاعاً، ارتدينا حلّة الأرزاء والألم، غرفنا غرفة الحزن من بئر الأحزان، وتاهت أرواحنا باحثةً عن روح ملائكية كانت بيننا، ننعم بسكونها، نُسقى من معينها، نُرَوِّي أعين وجداننا بالنّظر إلى بريقها، لبسنا سربال الأسى آخر لحظات الوداع لروح الشّيخ، عفّرنا وجوهنا بثرى الافتجاع، وألبسنا عيوننا ثوب العزاء، من دموع حرّى وقطرات حنين، وغابت شمس ذاك النهار،إلّا أنّ بدر السّماء لم يسبح في كبدها كعادته، أتُراه ارتحل؟! فكان هذا اللّقاء أجر تعب ونصب ومشقّة العقود التّسعة الّتي تصرّمت بالسّعي الحثيث والمجاهدة لاجتياز عقبات السّير إلى المحبوب، فغدى تضمّه يد الأمان والرّاحة والرّحمة الرّحمانيّة. لكن هذا الهناء والأمان لذلك الواصل، صار عزاءً وانكساراً دائمين وصدمة لا يتحمّلها سيل المشتاقين الّذين كانت رؤيته تذكّرهم بالله. فلقد كان غروب يوم الأحد غروباً كدّر مدينة قم بحُللِ الغصّة والأسى فما أن شاع خبر الوفاة على الأفواه حتّى تملّك البلدةَ الذّهولُ والحَيْرةُ، وسرعان ما تحوّل الأمر إلى أنّةٍ ورنّةٍ وتوجّعٍ ونياحٍ وعويل. وتناقلت المحافل الخبريّة النبأ الّذي صدّع القلوب وهُرِعَ سيل الوالهين من أبناء المرجعيّة نحو قم الّتي توشّحت بسواد الحزن وكان تشييعه تشييعاً منقطع النّظير، أمّا السيّدة المعصومة (عليها السّلام)، فقد همّت روحها مستقبلةً روحَه التّائقة لجوارها، مستضيفة الجسد الطّاهر في حرمها المطهّر، وكأنّ ابنة موسى بن جعفر (عليهما السّلام) قامت بواجب العزاء والاستضافة لجسد عارفٍ أبت إلّا أن يُدفن بالقرب منها، فتسعدَ روحُه بقربها، وتأنس نفسه بعظمتها، وأخيراً ووُريَ الجثمان الطّاهر للعارف الواصل في حرم السيّدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام) بنت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السّلام) في البقعة الأقرب لضريحها (عليها السّلام). وأمّا في مسجد الفاطميّة فقد حلّ السّكوت وخيّم الحزن والوُجُوْمُ وعمّت آهات الفراق، فراق تلك القلوب الوالهة المفجوعة لذلك الأب الكبير الّذي كان يطّلع عليها من بين نوافذ ذلك الباب الخشبيّ الصّغير المجاور للمحراب وهو مطأطئ الرّأس، عَطِر الشفاه بالذّكر، مغرورق العينين بالدّموع، قد نوّر السّجود جبهته الغرّاء. وفي غمرة هذه الوحشة الّتي لَفّت المسجد، ما عليك إلا أن تيمّم قلبك نحو حرم كريمة أهل البيت (عليها السّلام)، لتقف وتقدّم الهديّة لروحه الطاهرة بتلاوة باقة من آيات القرآن لتنال منه الهديّة، إذ إنّ هذا هو دأب العلماء الرّبانيّين في ردّ الجميل بالأجمل، كما يقول سماحته : إنّ العلماء لا يحتاجون لأن نقرأ الفاتحة لهم، لأنّهم قد أدّوا الّذي عليهم، لكن نحن من نحتاج إلى زيارتهم. وما عليك إلّا أن تصغي بقلبك إلى تراتيل «يس والقرآن الحكيم» الّتي أصبحت في ليلة الجمعة تعرج إلى العرش من جوار ذلك المضجع الطاهر بدلاً من عروجها من مسجد الفاطمية صبيحة يوم الجمعة ... تغيّبت شمس تبوّأت القلوب منازل بدلاً عن الأفلاك، فوهت قواعد الصبر وانحنى الظهر، وفيض المدامع غمر، نبكي بدرنا الّذي ضمه القبر، والحزن لفقده يهيجه الذّكر. ليته يعود كي نستفيق من سكرتنا على وقع العزاء، ولكن أنّى ذلك و قد حضنته السّماء؟! فجديرٌ بنا أن نظلّ على نهجه سالكين و على ذكره عاكفين، فإنه أسوة العارفين و قدوة العالمين و بهجة الميامين ...