All Posts By سید امین

الهجرة إلى النجف

وها هو اليوم يستعدّ للوفادة إلى الغريّ «النّجف الأشرف»، وفي قلبه حرارةٌ للإمام الحسين (عليه السّلام) لم ولن تبرد أبداً. وذلك في سنة ١٣١٢ هـ .ش، حيث توجه «الشّيخ محمّد تقي البهجة» إلى النّجف الأشرف، قاصداً باب أمير المؤمنين (عليه السّلام)، الّذي هو باب مدينة علم رسول الله (صلى الله عليه و آله)، متوسّلاً به أن يفيض عليه ويساعده في نيل العلوم العالية والكمالات السّامية....

ظهور نبوغه العلمي

فكما كان في كربلاء المقدّسة ذا نجم لامع وصيت ذائع من النّاحية العلميّة، فهنا أيضاً في النّجف الأشرف ذاع صيت سماحته من بين أقرانه، ومن القصص الّتي تبيّن نبوغه: عندما بدأ سماحته بحضور درس كفاية الأصول لدى العالم الكبير آية الله السّيّد محمود الشّاهرودي(قدّس سرّه) ـ والّذي كان من تلاميذ الآخوند الخراساني ـ وكان الشّيخ «محمّد تقي» أصغر الطّلبة سنّا، حيث إنّه لم يكن قد تجاوز الثّامنة عشرة من عمره الشّريف، ولم تكن لحيته قد نبتت بعد، وفي يوم من الأيام استشكل الشّيخ محمّد تقي البهجة على مطلب الأستاذ السّيّد الشّاهرودي، فأجابه السّيّد الشّاهرودي فأورد عليه الشّيخ البهجة إشكالاً آخر، وصار بينهما أخذ وردّ، وفي اليوم التّالي قام الطّلبة بمعاتبته والإنحاء باللّوم عليه، بل إنّ بعضهم قال له كلمات غير لائقة، وقالوا له: لم تستشكل على الأُستاذ مع حضور الطّلبة الأفاضل الأكبر منك سنّاً؟!...

بهجة الغريّ

لم تمض الأيّام الكثيرة على نزول الشّيخ البهجة في مدينة باب مدينة علم رسول الله صلّى الله عليه وآله وعلى مشرّفها آلاف التّحيّة والسّلام، حتّى صار مشاراً له بالبنان، ومحلّاً للاهتمام من كبار العلماء الأعلام، وما جاء في هذا الكتاب من قصص تدلّ على ذلك هو غيضٌ من فيض. ينقل العالم الربانيّ صاحب المصنّفات والمؤلّفات الكثيرة آية الله العلّامة السّيد عبّاس الكاشاني(قدّس سرّه) في مَعْرِضِ كلامه حول الشّيخ المقدّس البهجة (البالغ مناه)...

ابتهاج الفقه بالفقيه البهجة

عند الكلام حول فقاهة عالم وزهده وتقواه وورعه ينبغي التأني والدّقة في ذلك حتّى لا يضيع حقُّ من له حقّ على المؤمنين من الفقهاء والربّانيين من العلماء، فتراث العلماء أمانةٌ لا ينبغي أن تقف عند يد من وصلت إليه، بل ينبغي نشرها، كونهم حجّة بيننا وبين الإمام الحجّة المنتظر أرواحنا لتراب مقدمه الفداء، والشّيخ البهجة (البالغ مناه) ـ وفي الفترة الّتي استقرّ بها في مهد الولاية والعلم أي النّجف الأشرف ـ كان حائزاً قصب السّبق في هذه الأمور العلميّة....

بهجة العبوديّة

وعند الحديث حول تعبّد الشّيخ البهجة فقد لا يمكن لبضع كلمات أو سطور قليلة أن تعبّر عن مدى حبّ الشّيخ وتعلّقه بالأمور العباديّة، فقد كان حقّاً مثالاً لرجل العلم والعمل، ومصداقاً بارزاً لقولهم (عليهم السّلام): «أفضل الناس من عشق العبادة ، فعانقها وأحبّها بقلبه وباشرها بجسده وتفرّغ لها ، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا، على عسر أم على يسر». وفي هذا المضمار هناك كمٌّ كثيرٌ من القصص الّتي تحكي عن تعبّد سماحته وحالاته المعنويّة المميّزة، وانقطاعه إلى بارئه منذ عنفوان شبابه، والّتي تمّ تداولها بين الأوساط العلميّة في الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف، فلم تكن هذه القصص مرويّة عن أشخاص عادييّن بل تمّ نقل القصص الموثّقة من قبل كبار العلماء المعاصرين لسماحته....

العودة إلى الوطن

وبعد مدّة قصيرةٍ انقضت بلقاء الأسرة والأقارب والمحبّين استجاب العائد المجتهد لطلب أخته الكبيرة الّتي قامت مقام أُمه بتحقيق رغبتها في تزويجه، مضت شهورٌ قضاها الشّيخ محمّد تقي في فومن حتّى إذا انقضى شهر رمضان جدَّ عزمه للرّجوع إلى النّجف الأشرف، فذهب إلى مدينة قم المقدّسة حيث أقام فيها كي يتشرف بزيارة كريمة أهل البيت السّيدة فاطمة المعصومةBو يطَّلع على شؤون حوزتها العلميّة ثم ينطلق بعد ذلك إلى النّجف الأشرف....

حرم أهل البيت (عليهم السّلام)

كان دخول آية الله الشّيخ البهجة إلى مدينة قم المقدّسة في شوّال عام ١٣٦٥ هـ . ق ولم تمضِ على إقامته عدّة شهور حتّى توفّيَ والدُه الرّؤوف في صفر ١٣٦٥ هـ . ق ورقد في مضجعه بعد أن اطمأنّ على مستقبل ولده العزيز محمّد تقي. وهكذا فإن الإقامة في قم كانت مصحوبةً بحوادث مؤسفة حيث توالت الأخبار بوفاة آية الله السّيد أبوالحسن الأصفهانيّ في ذي الحجّة من عام ١٣٦٥ هـ . ق وبعدها بمدّة قصيرة وبالتّحديد في شهر ربيع الأول ١٣٦٦ هـ . ق رحل آية الله الميرزا السّيد علي القاضي (قدّس سرّه) إلى جوار ربّه، وكان قبل ذلك قد توفِّيَ كلٌ من آية الله آقا ضياء الدِّين العراقيّ والشّيخ محمّد حسين الأصفهاني الغروي (قدّس سرّهما) أيام إقامته بالنّجف الأشرف....

الأثمار البهجيّة

وفي خضمّ هذه النّشاطات لم يغفل هذا العبد الصّالح جانب تدوين وتصنيف نظريّاته العلميّة وآرائه الفقهية. وله في هذا المجال مؤلّفات عديدة في الفقه والأُصول، إلّا أنّه كان يمتنع عن طبع أكثرها ولم يستطع بعض من حوله أن يحصل على موافقته بتغطية تكاليف طبعها دون الاستفادة من الحقوق الشّرعيّة، وكان يقول لهم: «هناك الكثير من تصانيف أعاظم العلماء لا تزال بصورتها الخطيّة، فبادروا إلى طبع تلك، عند ذاك يأتي دور هذه!»....

بهجة الزّعامة

ونفس الأمر بخصوص المرجعيّة، فإنّه لم يحاول طرح نفسه أبداً. وكان يأبى دائماً التصدّي لها على الرّغم من تاريخه العريق في تدريس خارج الفقه والأصول لمدّة نصف قرن. إلّا أنّ الّذي حصل بعد رحيل آية الله السّيد أحمد الخوانساري(قدّس سرّه)، وآية الله السيد أبو القاسم الخوئي(قدّس سرّه)، هو كثرة الطلّبات بإلحاح من كثير من العلماء والمؤمنين بطبع رسالته العلميّة، وفي كلّ مرّة يطلبون من سماحته أن يصدر رسالة عمليّة كان يقول: «الآخرون موجودون ليحملوا هذا الثّقل على عاتقهم!»....

بهجة مكارم الأخلاق

إنّ من أبرز سمات وصفات سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه) والّتي لم تكن خافية على كلّ من عاشره أو عاصره، كانت هي الزّهد وبساطة العيش. فلقد كانت رؤية سماحة آية الله البهجة تذكّر الإنسان بالله حقّاً، وتزعج المرء من الدّنيا الدنيّة وكان فعلاً مصداق الرّواية: «جالسوا من يذكّركم الله رؤيته ولقاؤه، فضلاً عن الكلام» لِما يبرُزُ من شخصيّته من الزّهد والتّقوى وبساطة العيش، فقد كان يمشي بين النّاس وروحه معلّقة بالمحلّ الأعلى، وكانت حياته كحياة الأنبياء (عليهم السّلام)، حيث لم يعيروا للدّنيا طرفاً....