تصنيفات: السيرة الذاتية

بهجة العبوديّة

وعند الحديث حول تعبّد الشّيخ البهجة فقد لا يمكن لبضع كلمات أو سطور قليلة أن تعبّر عن مدى حبّ الشّيخ وتعلّقه بالأمور العباديّة، فقد كان حقّاً مثالاً لرجل العلم والعمل، ومصداقاً بارزاً لقولهم (عليهم السّلام): «أفضل الناس من عشق العبادة ، فعانقها وأحبّها بقلبه وباشرها بجسده وتفرّغ لها ، فهو لا يبالي على ما أصبح من الدنيا، على عسر أم على يسر». وفي هذا المضمار هناك كمٌّ كثيرٌ من القصص الّتي تحكي عن تعبّد سماحته وحالاته المعنويّة المميّزة، وانقطاعه إلى بارئه منذ عنفوان شبابه، والّتي تمّ تداولها بين الأوساط العلميّة في الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف، فلم تكن هذه القصص مرويّة عن أشخاص عادييّن بل تمّ نقل القصص الموثّقة من قبل كبار العلماء المعاصرين لسماحته....

العودة إلى الوطن

وبعد مدّة قصيرةٍ انقضت بلقاء الأسرة والأقارب والمحبّين استجاب العائد المجتهد لطلب أخته الكبيرة الّتي قامت مقام أُمه بتحقيق رغبتها في تزويجه، مضت شهورٌ قضاها الشّيخ محمّد تقي في فومن حتّى إذا انقضى شهر رمضان جدَّ عزمه للرّجوع إلى النّجف الأشرف، فذهب إلى مدينة قم المقدّسة حيث أقام فيها كي يتشرف بزيارة كريمة أهل البيت السّيدة فاطمة المعصومةBو يطَّلع على شؤون حوزتها العلميّة ثم ينطلق بعد ذلك إلى النّجف الأشرف....

حرم أهل البيت (عليهم السّلام)

كان دخول آية الله الشّيخ البهجة إلى مدينة قم المقدّسة في شوّال عام ١٣٦٥ هـ . ق ولم تمضِ على إقامته عدّة شهور حتّى توفّيَ والدُه الرّؤوف في صفر ١٣٦٥ هـ . ق ورقد في مضجعه بعد أن اطمأنّ على مستقبل ولده العزيز محمّد تقي. وهكذا فإن الإقامة في قم كانت مصحوبةً بحوادث مؤسفة حيث توالت الأخبار بوفاة آية الله السّيد أبوالحسن الأصفهانيّ في ذي الحجّة من عام ١٣٦٥ هـ . ق وبعدها بمدّة قصيرة وبالتّحديد في شهر ربيع الأول ١٣٦٦ هـ . ق رحل آية الله الميرزا السّيد علي القاضي (قدّس سرّه) إلى جوار ربّه، وكان قبل ذلك قد توفِّيَ كلٌ من آية الله آقا ضياء الدِّين العراقيّ والشّيخ محمّد حسين الأصفهاني الغروي (قدّس سرّهما) أيام إقامته بالنّجف الأشرف....

الأثمار البهجيّة

وفي خضمّ هذه النّشاطات لم يغفل هذا العبد الصّالح جانب تدوين وتصنيف نظريّاته العلميّة وآرائه الفقهية. وله في هذا المجال مؤلّفات عديدة في الفقه والأُصول، إلّا أنّه كان يمتنع عن طبع أكثرها ولم يستطع بعض من حوله أن يحصل على موافقته بتغطية تكاليف طبعها دون الاستفادة من الحقوق الشّرعيّة، وكان يقول لهم: «هناك الكثير من تصانيف أعاظم العلماء لا تزال بصورتها الخطيّة، فبادروا إلى طبع تلك، عند ذاك يأتي دور هذه!»....

بهجة الزّعامة

ونفس الأمر بخصوص المرجعيّة، فإنّه لم يحاول طرح نفسه أبداً. وكان يأبى دائماً التصدّي لها على الرّغم من تاريخه العريق في تدريس خارج الفقه والأصول لمدّة نصف قرن. إلّا أنّ الّذي حصل بعد رحيل آية الله السّيد أحمد الخوانساري(قدّس سرّه)، وآية الله السيد أبو القاسم الخوئي(قدّس سرّه)، هو كثرة الطلّبات بإلحاح من كثير من العلماء والمؤمنين بطبع رسالته العلميّة، وفي كلّ مرّة يطلبون من سماحته أن يصدر رسالة عمليّة كان يقول: «الآخرون موجودون ليحملوا هذا الثّقل على عاتقهم!»....

بهجة مكارم الأخلاق

إنّ من أبرز سمات وصفات سماحة الشّيخ البهجة (البالغ مناه) والّتي لم تكن خافية على كلّ من عاشره أو عاصره، كانت هي الزّهد وبساطة العيش. فلقد كانت رؤية سماحة آية الله البهجة تذكّر الإنسان بالله حقّاً، وتزعج المرء من الدّنيا الدنيّة وكان فعلاً مصداق الرّواية: «جالسوا من يذكّركم الله رؤيته ولقاؤه، فضلاً عن الكلام» لِما يبرُزُ من شخصيّته من الزّهد والتّقوى وبساطة العيش، فقد كان يمشي بين النّاس وروحه معلّقة بالمحلّ الأعلى، وكانت حياته كحياة الأنبياء (عليهم السّلام)، حيث لم يعيروا للدّنيا طرفاً....

بهجة الولاء للأئمة الأطهار (عليهم السّلام)

من جملة الأُمور التي كان سماحته يُوْليها بالغ الأهميّة، هو حضوره المتواصل يوميّاً في الحرم الطّاهر والملكوتي لكريمة أهل البيت السّيدة فاطمة المعصومة (عليها السّلام)، حيث كان دأبه حتّى آخر عمره المبارك ـ الّذي توسّط العقد العاشر ـ أن يتشرّف بعد أداء صلاة الصّبح بزيارتها، ويعتزل في زاوية من زوايا الحرم ليختلي هناك خلوة العاشق، ويقرأ بعض الزّيارات والأدعية، ويؤدّي بعض الصّلوات....

بهجة الصّلاة

وليس بوسع الكلمات وصف صلاته الملكوتيّة أو درك صورتها البهيّة وروحانيّتها ولا بوسع أحد حتّى أولئك المصلّين الّذين كانت صفوفهم تتراصّ إلى حدٍّ تتزاحم فيه أكتافهم فيضطرون إلى شغل ساحة المسجد الخارجيّة، حيث تتّصل صفوفهم بصفوف أولئك الّذين افترشوا أرض الزّقاق المحاذي لمسجد الفاطميّة وهم يستمعون بآذان قلوبهم إلى صوته المنبعث من داخل محرابه وهو يتلو آيات الذّكر الحكيم، أو يردّد أذكار الرّكوع والسّجود والقنوت، وقد غلبت عليه حالة المضطرّ المستجير باستغاثات يقطّعها النّحيب، وكأنّه لا يريد أن ينفتل من لقاء حبيبه....

بهجة النّاظرين

نعم، فلقد كانت رؤية وجه سماحته تذكّر المرء بالله دون أن يتحدّث معه، ولم يكن هذا حال النّاس العاديين فقط، بل هو حالُ العلماء الربّانيين الّذين كان النّاس يذكرون الله برؤيتهم، ولكن نفس هؤلاء الربّانيين كان لهم نحو تعلّق بالنّظر إلى وجه سماحته المضيء، بحيث كانوا يذكرون الله برؤية سماحته بدرجات عالية من ذكر الله، حيث ينقل الأُستاذ السيِّد رضا الخسروشاهي: «أذكر أنّه في أحد الأيام قد جاء العلّامة محمّد تقي الجعفري(قدّس سرّه) للقاء سماحة الشّيخ البهجة(قدّس سرّه)، وبعد اللقاء وفي أثناء الخروج من منزل سماحته رآني في طريقه وقال: «جاء في الرّوايات أنّه: إذا لم يلتق الشّخص بالعالم كلّ أربعين يوم، مات قلبه»، وكذلك: «زيارة العلماء أحبّ إليّ من سبعين طوافاً حول البيت سماحة الشّيخ البهجة هو المصداق الأبرز لهؤلاء العلماء [المذكورين في الرّواية]»...

التّحف الإلهيّة

وأمّا لدى الحديث حول كراماته الّتي أصبحت أشهر من نار على عَلَمٍ ولا تخفى على البعيد فضلاً عن القريب، هذا على رغم شدّة تكتّمه وحرصه على عدم إظهار شيء منها، لكن ما طفح منها ليست إلا غيضاً من فيض كراماته الباهرة فهنيئاً لأرباب النّعم، وممّا يدلّ على كتمانه هو كلام بعض معاصريه من العلماء والأفاضل في حقّه، وفي هذا ينقل آية الله الشّيخ المصباح اليزدي: «من صفات سماحته أيضاً أنّه كان شخصاً كتوماً جدّاً فيما يتعلّق بإظهار مقاماته المعنويّة ونادراً ما كان يقوم بعملٍ أو يقول شيئاً يدلّ على أنّه قد أتى بأمرٍ أو علمٍ خارقٍ للطّبيعة، لكنّ المقرّبين منه على طول السّنين والعشرة كانوا يواجهون من حين إلى آخر بعض الأشياء الّتي تجزم بأنّ لسماحته قدراتٍ تفوق قدرات الآخرين العاديّة»[1]....