البيان الثاني

من بيانات لسماحته (البالغ مناه)

بيان سماحته في تبيين معنى تعظيم الشّعائر بمناسبة الإفتتاح ورفع السّتار عن القبّة المذهّبة السّامية لحرم السّيدة فاطمة المعصومة بنت الإمام موسى بن جعفر (عليهما السّلام)

الحمد لله ربّ العالمين والصّلاة على سيّد الأنبياء محمّد وآله الطّاهرين، وعلى جميع الأنبياء والأوصياء المطهّرين، واللّعن الدّائم على أعدائهم أجمعين.

وبعد، قال الله ـ عزّ من قائل ـ «وَ مَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ» [1]

كلّ التّقوى مرتبطة بالقلب، والجسد بمنزلة الخادم، لكن اختصاص الشّعائر بأنّها من تقوى القلوب فلمكان أنّها تثبّت التّقوى في قلوب الآخرين، وأنّها علامات يتوصّلون بها إلى ذي العلامة. وفي الرّواية «علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى والخمسين، وزيارة الأربعين، والتختّم باليمين، وتعفير الجبين، والجهر ببسم الله الرحمن الرحيم»[2] وكلّ هذه الخمس ممّا يراه الآخرون وبها يتوصّلون إلى ذكر الله وطاعته.

ولا كلام لنا ولا بحث في الشّعائر المنصوص عليها والّتي أمر بها كقوله تعالى: «إنَّ الصَّفَا وَ الْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ الله»[3] و «يا أيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ الله وَ لا الشَّهر الحَرَامَ وَ لا الهَدْيَ وَ لا الْقَلائِد»[4]، وكذا ما وَرَدَ النّص على منعها مثل تزيين المساجد بالذّهب، وأمّا غير المنصوص عليه بالأمر أو النّهي، فمحلّ التّمسّك بعموم قوله تعالى: «وَ مَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ»[5].

فكل عبادة تكون سبباً لدخول الآخرين في ذكر الله وطاعته فهي مقرّبة من جهتين: من كون نفسها مأموراً بها، ومن كونها تحضّ الآخرين نحو الطّاعة، فهي ذات الشّرافتين.

صلاة اللّيل وإن لم يرها أحد، عبادة، لكن من جهة واحدة، وكذا صلاة النّهار وإن أخفت فيها ولم يسمعها أحد، عبادة، لكن من جهتين، ولهذا وردت في العلل حكمة الجهر باللّيل والإخفات بالنّهار.[6] وإدخال السّرور في قلب المؤمن بفعل مباح هي عبادة من جهة واحدة، وبفعل عباديّ عبادة من جهتين، والطّواف بالبيت عبادةٌ من جهتين لكونه نفسه مأموراً به، ويصير سبباً لدخول الآخرين فيه، وهكذا أمثال هذه [المذكورات].

لقد أخطأ الّذين تخيّلوا أنّ هذه الأمور شركٌ، من جهة التمرّد عن مولى العالَم، ومن جهة الجهل بقابليّة الطّين لأمور لا تكون النّار قابلة لها، إن لم يكن قبح المخالفة فاحشاً قبل الإنباء بالأسماء فلماذا لم يتب بعدما صار قبح المخالفة أفحش بعد الإنباء وبعد الامتحان؟ إذا لم يكن مقدوراً ولم يتحقّق في زمان أو من أشخاص تعمير مسجد أو مشهد أو تذهيب قبّة ولي الله، فهذا ليس دليلاً على عدم عباديّته ولا على كونه بدعة.

إذا رأت دول الكفر أنّ شرط الوصول إلى المقاصد الخبيثة هو الجمع بين الدّين ـ يعني الدّين المجعول الباطل ـ والقدرة المحرّمة بالسّيف، فلازمه ما قد رُئي.

ويكون من أجل ذلك صار إقبال النّاس إلى حجّ بيت الله وزيارة المشاهد المقدّسة للأوصياء والأوّلياء والأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين، والتّوسل بهم موجباً للكرامات المتواترة القطعيّة التي لا زالت تظهر، لأن الوساطة في الفيوضات ثابتةٌ، وهذه الواقعيّة معلومةٌ لأهل التّقوى.

الّذين يقولون بأنّ كتاب الله كافٍ كالّذين يقولون بأنّ العترة كافيةٌ، كلاهما ضالّ، بل الأوّل منهما ليسوا كتابييّن، والثاني منهما ليسوا منسوبين إلى العترة، لأنّ المتلازمين يكونان كالشّيء الواحد، هل الكتاب كافٍ من الكتاب وقد ورد فيه «الْيَوْمَ أكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُم»[7]، وكذا فيه «إنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَ رَسُولُهُ وَ الّذِينَ ءامَنُوا الَّذين يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤتُونَ الزَّكَوةَ وَ هُمْ رَاكِعُونَ»[8] وكذا «وَ كُونُوا مَعَ الصّادِقينَ»[9]، وإلى ما شاء الله من الآيات الواردة في الإرجاع إلى العترة. وكذا العترة لا تفارق الكتاب، قال رسول الله (ص): «سألت الله أن لا يفرّق بينهما ـ أي الثّقلين ـ حتّى يرِدَا عليّ الحوض، فاستجاب لي»[10] وهذا دليلٌ على وجود الغائب (عج)، وإلا حصلت الفرقة بين الكتاب والعترة، وكذا ورد: «ما خالف كتاب الله لم نقله»[11].

كتاب نهج البلاغة الّذي هو فوق كلام المخلوق ودون كلام الخالق يكون مهجوراً عند الجاهلين مِنْ أجل المقال الحقّ في الخطبة الشّقشقيّة وأمثالها.

لا جعلنا الله من أهل الكذب والافتراء! ووفّقنا لملازمة الثقلين الموروثين في الدّنيا والآخرة وفي أُمور الدّنيا والآخرة، أعني الكتاب والعترة الطّاهرة، وجزى الله من سعى في تعمير المساجد والمشاهد المشرّفة ولا سيما قبّة فاطمة المعصومة الطّاهرة، بنت موسى بن جعفر ـ سلام الله عليهم ـ خيراً يليق بفضله، إنّه جواد كريم، بحقّ محمّد وآله الطّاهرين صلوات الله عليهم أجمعين.

والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته
١٧/ ربيع الأوّل/ ١٤٢٦ العبد محمّد تقي البهجة

كتاب الناصح، ص 293

0005

0007

0006

0004

0008

 

[1] سورة الحج، الآية ٣٣.

[2] روي عن أبي محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام أنّه قال: «علامات المؤمن خمس: صلاة الإحدى و الخمسين، و زيارة الأربعين، و التختم في اليمين، و تعفير الجبين، و الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم». المزار للشيخ المفيد، ص ٥٣؛ إقبال الأعمال للسيد ابن طاوس، ج ٣، ص ١٠٠؛ بحار الأنوار، ج ٨٢، ص ٧٥.

[3] سورة البقرة، الآية ١٦٠.

[4] سورة المائدة، الآية ٢.

[5] سورة الحجّ، الآية ٣٣.

[6] راجع: علل الشرائع للشيخ الصدوق، ج ٢، ص ٣٢٣؛ وسائل الشّيعة، ج ٤، ص ٧٦٨ و ج ٦، ص ٨٤.

[7] سورة المائدة، الآية ٣.

[8] سورة المائدة، الآية ٥٥.

[9] سورة التوبة، الآية ١١٩.

[10] راجع ينابيع المودة، ج ١، ص ١١٦؛ الغدير، ج ٣، ص ٨٠؛ شواهد التنزيل، ج ١، ص ١٩١؛ اصول الكافي، ج١، ص ٢٠٩، و ٢٨٧ و ... .

[11] راجع بحار الأنوار، ج ٢، ص ٢٣٧.